إنَّه كتاب ((الموطَّأ)) لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه..
كان من أجلّها وأعظمها نفعاً، وإن كان بعضُها أكبرَ حجماً منه وأكثر أحاديث..
سيرة الإمام مالك في سطور..
هو مالك ابن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث، أبو عبد الله الأصبحي.
ولد سنة 93هـ عامَ موت أنس رضي الله عنه، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
طلب الإمام مالك العلم، وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد.
حدَّث الإمام مالك عن نافع ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وأيوب السختياني، وعامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام، وصالح بن كيسان، وأبي الزناد، وابن المنكدر، وهشام بن عروة، وخلق كثير.
وحدَّث عنه أمَّة منهم: محمد بن الحسن الشيباني، والإمام الشافعي، وحمَّاد بن سلمة، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير.
كان الإمام مالك رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء، واللغط، ولا رفع صوت، وكان مالك لا يحدِّث إلاَّ وهو على طهارة إجلالاً للحديث.
قال ابن حبَّان: (كان مالك أوّل من انتقى الرِّجال من الفقهاء بالمدينة، مع الفقه والدِّين والفضل والنسك، ولم يكن يروى إلاَّ ما صح، ولا يحدّث إلاَّ عن ثقة، وبه تخرّج الشافعي).
له مذهب في الفقه مشهور تلقته الأمَّة الإسلامية بالقبول، وهو المذهب المالكي، وقد ملأ مذهبه بلاد المغرب العربي والأندلس، وانتشر في مصر، وبعض الشَّام، واليمن، والسودان، والعراق..
توفي رضي الله عنه سنة (179هـ).
من أقواله المشهورة..
(كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ صاحب هذا القبر) يعني النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقوله للمنصور إذ عرض عليه أن يحمل النَّاس على الموطأ: (إنَّ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تفرَّقوا في الأمصار، فعند أهل كلّ مصر علم).
كان مالك يقول: (والله ما دخلت على مَلِك من هؤلاء الملوك حتَّى أصل إليه، إلاَّ نزع الله هيبته من صدري).
عن ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (ما تعلَّمت العلم إلاَّ لنفسي، وما تعلَّمت ليحتاج النَّاس إليَّ، وكذلك كان النَّاس).
كتاب ((الموطَّأ))..
ألف الإمام مالك كتابه ((الموطأ)) بناء على طلب من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور المتوفى سنة (158هـ)، وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يحمل الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال: (إنَّ الناس قد جمعوا وأطلعوا على أشياء لم نطلع عليها).
وقد استغرق تأليفه (الموطأ) أربعين سنة، قال الإمام الأوزاعي: (عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما ما أقل ما تفقهون فيه).
وقال الزهري: سمعت مالكاً يقول: قال لي المهدي: ضع يا أبا عبد الله كتاباً أحمل الأمَّة عليه.
فقلت: (يا أمير المؤمنين، أمَّا هذا الصّقع وأشرت إلى المغرب فقد كفيته، وأمَّا الشَّام، ففيهم من قد علمت يعني الأوزاعي، وأمَّا العراق، فهم أهل العراق).
وعن يحيى بن بكير، قال: كان مالك بن أنس إذا عرض عليه الموطَّأ لبس ثيابه ويأخذ ساجه وعمامته، ثم أطرق ولا يتنخَّم ولا يعبث بشيء من لحيته حتَّى يفرغ من القراءة إعظاماً لحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
سبب التسمية:
اختلف في سبب تسميته بـ ((الموطأ)) قيل: إنَّ مالكاً قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ، ففي مختار الصِّحاح: (وَاطَأَهُ على الأمر مُوَاطَأةً وافقه، وتَوَاطَئُوا عليه توافقوا).
وقيل سمِّي بذلك: لأنَّه وطأ العلم والحديث ويسَّرهما للنَّاس.
طريقته في التأليف:
صنَّف الإمام مالك كتابه الموطأ في الحديث على طريقة الأبواب، ولم يتقيَّد فيه بالأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، بل جمع فيه أيضا أقوال الصَّحابة وفتاوى التابعين، فيذكر في مقدّمة الباب ما ورد فيه من حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ أقوال الصَّحابة، ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وقلَّ أن يكونوا من غير أهل المدينة، وأحياناً يذكر ما عليه العمل المجمع عليه بالمدينة، وقد يذكر بعض الآراء الفقهية له، لأنَّه ممَّن جمعوا بين الفقه والحديث فهو من محدّثي الفقهاء.
عدد أحاديثه:
قال أبو بكر الأبهري: (جملة ما فيه من الآثار عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعن الصحابة والتَّابعين ألف وسبعمئة وعشرون حديثاً؛ المسند منها ستمئة حديث، والمرسل مئتان واثنان وعشرون حديثاً، والموقوف ستمئة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مئتان وخمسة وثمانون).
رواياته:
لموطأ الإمام مالك رواة كثيرون؛ منهم: رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي (ت: 244 هـ)، ورواية أبي مصعب الزهري، ورواية سويد بن سعيد الحدثاني، ورواية محمد بن الحسن الشيباني.
من شروحه:
التَّمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر بن عبد البَّر، المتوفى سنة (463هـ).
الاستذكار لمعرفة فقهاء الأمصار فيما تضمنه الموطأ في معاني الرَّأي والآثار، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، المتوفى سنة (463 هـ).
شرح الزرقاني على الموطأ (رواية يحيى الليثي)، لأبي عبد الله محمَّد بن الشيخ عبد الباقي، المتوفى سنة (1122 هـ).
المنتقى شرح الموطأ لأبوب الوليد سليمان بن خلف الباجي، المتوفى سنة (494 هـ).
بين الموطأ والصَّحيحين..
إنَّ قول الإمام الشَّافعي السَّابق محمول على الكتب التي ألِّفت قبل صحيحي البخاري ومسلم، وهو قول مقارن بما زامنه إلى عهد الشافعي، فلمَّا ألف الصَّحيحان، لم تبق تلك الدَّعوى صحيحة، خصوصاً وأنَّ مالكاً رحمه الله ضمَّن كتابه الأحاديث والآثار ورأي نفسه، كما وقع في أسانيد أحاديثه المتصل والمرسل والمنقطع والبلاغات، فلم يجرِّد للحديث الصَّحيح المتصل.
رحم الله أئمَّة الحديث وأهله رحمة واسعة، وجعلنا نقتفي آثارهم في الحفاظ وحفظ سنَّة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
-------------------------------------------------------------
مراجع للاستزادة :
الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث، لابن كثير – محمَّد أحمد شاكر.
سير أعلام النبلاء للذهبي- ترجمة الإمام مالك بن أنس.