من أكثر الأمور التي تميّز بها عصرنا الحديث هو التطور التكنولوجي الذي شهدته جميع المجالات، وخصوصاً الشبكة العنكبوتية التي سهّلت تبادل الأفكار والثقافات، ومتابعة الأخبار والمستجدات في جميع المجالات والميادين، فما كان بعيداً صار بها قريباً جداً، كما وصار تداول المعلومات بكافة أشكالها أمراً متاحاً لكلِّ من استفاد من هذا التطوّر التكنولوجي الهائل.
وفي خضم هذا التطور، كانت أكثر الأمور أهمية، هي إضافة وسيلة مهمَّة للاتصال الجماهيري، ووجود آلية جديدة وفعَّالة، لإرسال الرّسالة من المرسل إلى المستقبل، بطريقة بعيدة عن الملل، وتتسم بالمهنية والتخصصية في كثير من الأحيان، حتى أنَّ الشبكة العنكبوتية وخصوصاً بعض أنواعها كالمواقع الاجتماعية، صارت مرتكزاً من مرتكزات التعبئة التحرّرية للشعوب المظلومة، وآلية لترتيب الجهود والنهضة والتطور، ممَّا جعل أثرها أكبر من الخطب الرنَّانة، والكلمات المنمَّقة، وغيرها.
لكن وفي الوقت نفسه، فإنَّ التطوَّر التكنولوجي أحدث نوعاً من الفوضى والبلبلة الفكرية والدينية لدى البعض، فصار مكاناً لترويج الأفكار الهدَّامة، والسلوكيات المنحرفة، والفساد الخلقي.
وصار البعض تحت مسمَّى التكنولوجيا، يحاول أن يظهر حالة النفاق التي تعتريه، فصار يهاجم أركان الدِّين وركائزه، ويستهزئ بتشريعاته ومقاصده، ويحاول أن يضعف تمسك المسلمين بثوابت دينهم وقضاياهم، عبر التخفي والتستر خلف ستار التكنولوجيا، والضرب على وتر حالة الضعف الإيماني والتربوي والفكري، التي تعتري نفوس الناس، وخصوصاً الشباب؛ كونهم الأكثر استخداماً لهذا الأمر.
ومع بالغ الأسف، وجدنا بعض أصحاب النفوس الضعيفة قد أجابوا هذه الدَّعوات الهدَّامة، فصاروا مروّجين لها؛ إمَّا بالتأييد أو بالرفض كما سنبيّن لاحقاً.
وفي خضم هذا التطوّر، يظهر جلياً أهمية دور الدَّاعية الواعي المتبصِّر بقضايا أمته والحريص على تغيير النفوس، ونشر الدين وأحكامه بين الناس، ليصلح ما أفسده المفسدون على مرّ الأيام والسنين.
مشاكل وخلل
نجد أنَّ كثيراً من الدُّعاة في وقتنا الحالي، لم يدركوا بعد ركب التطوّر السَّريع الذي يزداد تطوراً يوما بعد يوم، في حين يقوم البعض الآخر، بمحاولة إدراك هذا القطار السريع، الذي لا يتوقف ولا يمل من السير بسرعته الفائقة، فإمَّا أن يدركه، وإمَّا أن يقع في أخطاء، وتنحرف به طريقته عمَّا خصص له ووضع له.
فمثلاً نجد البعض ينشغل في حكم دخول التكنولوجيا، والفائدة منها، ويركّز على عيوبها، وينسى أنَّ هناك من سبقه بشكل كبير في هذا الميدان، بحيث بات يسيطر على المشاركين فيها، ويوصل رسالته المنحرفة للناس بكل أريحية، ليكسبهم ويسيطر عليهم، بل وينصب نفسه ناطقاً باسمهم وحاملاً لقضاياهم واهتماماتهم، وفي الوقت نفسه نجد بعض الدُّعاة يفضّلون تلك الوسائل القديمة دون إعطاء أدنى اهتمام لما استجد من أمور وتغير من وسائل، فيظن أنَّ الوسائل الأكثر فاعلية، هي الخطب والكلمات الشفوية، والوريقات ذات العبارات المرصوصة وغيرها.
إنَّ كثيراً من المسلمين الغيورين، أوقعتهم عاطفتهم المحرقة في مآلات مرفوضة، لأنَّهم لم يدركوا أبعاد تصرفهم. وفي نفس الوقت، فإن البعض دفعهم حب الإصلاح إلى تجاوز الكثير من الثوابت التي يلتزموا بها على الحقيقة والواقع، إلاَّ أنَّهم يتجاوزونها في العالم الافتراضي وفي ظل الوسائل التكنولوجية الحديثة، ليظهروا تناقضاً بين الواقع الحقيقي المعاش، والآخر الافتراضي.
ومن ناحية أخرى، نجد من يريد أن يدرك ما فاته من تطور فيشارك فيها بكل قوّة، ويسعى لتغيير الواقع وإصلاحه، عبر إرسال تلك الرسائل الإسلامية الرائعة، والتي قد يشوب بعضها الخلل في الأسلوب أو المضمون، مما يؤثر سلباً على نجاح رسالته وتميزها، كما أن البعض قد ينسحب من الواقع الذي يعايشه – اغتراراً بكثرة المتابعين وإشادات المعجبين- فيظن أن دعوته ناجحة افتراضياً، ومؤثرة ومغيرة للنفوس، دون اعتماد على التواصل الشخصي، والتربية والعمل المسجدي، والنصح والإرشاد، وغير ذلك من الأمور.
وبين هذا وذاك، نجد من يشارك في التكنولوجيا، لكن قد تدفعه غيرته الزائدة وحرقته على دينه ودعوته لأن يقع في الأخطاء، فمثلاً يروج لتلك المواقع التي تدعو للأفكار الهدامة أو تسيء للإسلام والمسلمين عبر التحذير منها، وكأنه يقول للناس شاهدوا واقرؤوا – من حيث لا يدري-.
إنَّ كثيراً من المسلمين الغيورين، أوقعتهم عاطفتهم المحرقة في مآلات مرفوضة، لأنَّهم لم يدركوا أبعاد تصرفهم. وفي نفس الوقت، فإن البعض دفعهم حب الإصلاح إلى تجاوز الكثير من الثوابت التي يلتزموا بها على الحقيقة والواقع، إلاَّ أنَّهم يتجاوزونها في العالم الافتراضي وفي ظل الوسائل التكنولوجية الحديثة، ليظهروا تناقضاً بين الواقع الحقيقي المعاش، والآخر الافتراضي.
علاج وحلول
إنَّ الوسائل التكنولوجية الحديثة تتغير طبيعتها بتغير استخدامها وفلسفتها، وهي وسيلة من الوسائل التي تؤدِّي إلى خدمة الدَّعوة والدِّين.
ومن الخطأ أن يتم التركيز على ماهية الوسيلة، دون النظر إلى الهدف من استخدامها، والغاية التي يبتغيها الداعية منها؛ لأنَّ الوسائل الموصلة للغايات تأخذ حكم ما تؤدِّي وتفضي إليه. فما كان من الوسائل التي لا تخالف الشريعة بحقيقتها وماهيتها موصلة لمقاصد وغايات سامية، فهي تكون وسائل عظيمة ومهمّة وسامية، كما قال علماؤنا.
ومن ناحية أخرى، فإنَّ الداعية الناجح يبحث دائماً عمَّا يحقِّق أكبر المكاسب الدَّعوية، والإنجازات والغايات، وكلَّما كانت الوسيلة موصلة لهذه الغايات بشكل أكبر وأسرع وأسهل، كان استخدام الدَّاعية لها أكثر وجوباً وإلحاحاً.
وليس هناك أيّ تعارض بين الانتشار الأفقي والرأسي للدعوة، بمعنى آخر ليس هناك تعارض بين استخدام الوسائل التكنولوجية التي يوصل الداعية عبرها أفكاره للمدعو، وبين تحقيق آثار هذه الرِّسالة الدَّعوية في المدعو وجعله متمثلاً بصفاتها وبقيمها.
إنَّ تهميشَ ما وصل إليه الناس من تطور، يعني التقوقع على أفراد معينين، وحسر للفكرة بين أصناف قليلة من النَّاس، وحرمان للكثير من فئات المجتمع من إيصال الرسالة الملتزمة والتي تحدث التغيير المنشود فيهم، أو على الأقل تجعلهم أكثر قابلية للاستجابة للدعوة ومناصرتها.
كما إنَّ الاكتفاء بالعالم الافتراضي فقط دون متابعة، يوجد نوعاً من الضبابية لنتائج الدعوة ومكتسباتها، ولهذا لابدَّ للداعية أن يوازن بين وسائل الانتشار ووسائل تحقيق الآثار وترسيخ الأفكار.
إنَّ الدَّاعية لابدَّ أن يكون كالقطار الذي يسير بين سكتين لا يحيد عنهما؛ سكة الثوابت والأركان، وسكة التطور الذي يتماشى مع تغيّر الأحوال والأزمان.
وفي الوقت ذاته، فإنَّ الداعية الناجح لابدَّ وأن يلتزم بنفس الثوابت التي يطبقها في عالمه الحقيقي على عالمه الافتراضي، فالكثير انحرف عن مسار دعوته نتيجة تخليه عن تلك الثوابت، مما ادى إلى ضياع البوصلة والوجهة، وهو ما أدَّى إلى تحقيق نتائج عكسية على الدَّعوة.
إضافة لما سبق، فلا بدَّ للداعية أن يركز على النظر لنتائج تصرفاته، وأن يحكم منطق العقل والحكمة، على العاطفة الجيَّاشة، والانفعال الزائد، لأن تغييب المنطق العقلاني في مثل هذه الأمور، يؤدِّي إلى الوقوع في أخطاء دعوية، كان بإمكان الدَّاعية تجنّبها، وهذا يستدعي توفر الحكمة في التصرف، والتأني والاستفادة من خبرات الآخرين، لتحقيق أفضل النتائج، وجلب أعظم المصالح الدعوية.
خلاصة القول، إنَّ الدَّاعية لابدَّ أن يكون كالقطار الذي يسير بين سكتين لا يحيد عنهما؛ سكة الثوابت والأركان، وسكة التطور الذي يتماشى مع تغيّر الأحوال والأزمان.