رجل لا نظير له في زمانه، تميَّز بكلِّ شيء في حياته، كان مبدعاً في المجالات كلّها، بل غير خارطة موازين القوى في فلسطين، ممَّا أثَّر على محيطها من حيث الواقع والأفكار.
كانت حياته زاخرة بتغييره للنفوس، وعطائه لدينه وقضيته، وكان استشهاده تجديداً للهمَّة، وبعثاً لروح الاستمرار والنِّضال والجهاد، حتَّى تحرير الأرض من سلطان الاحتلال وأعوانه؛ إنَّه الشيخ أحمد ياسين الذي ولد في عام 1936 في قرية "الجورة" من قضاء مدينة المجدل عسقلان، ومع حلول النكبة هاجر مع أسرته من منطقة المجدل عسقلان إلى القطاع، ولم يمكث طويلاً حتى تعرَّض عام 1952 لحادث وهو يمارس الرِّياضة على شاطئ غزَّة ما أدَّى إلى شلل شبة كامل في جسده تطوَّر لاحقاً إلى شلل كامل .
لم يثنه الشلل عن مواصلـة تعليمه وصولاً إلى العمل مدرّساً للغة العربية والتربية الإسلامية في مدارس وكالة الغوث بقطاع غزة، وفي تلك الأثناء " فترة الخمسينات والستينات " كان المد القومي قد بلغ مداه فيما أعتقل من قبل السلطات المصرية التي كانت تشرف على غزة بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، وعندما كان رجالات الحركة في قطاع غزة يغادرون القطاع هرباً من بطش "جمال عبد النَّاصر" كان للشيخ أحمد ياسين رأى آخر، فقد أعلن أنَّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة والجهاد.
نشاطه السياسي ..
حين بلغ الشيخ ياسين سن العشرين بدأ نشاطه السياسي، وذلك من خلال المشاركة في المظاهرات التي اندلعت في غزَّة احتجاجاً على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956، حينها اظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة؛ حيث استطاع أن ينشط مع إخوانه في الدَّعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة مؤكّداً على ضرورة عودة الإقليم إلى الإدارة المصرية.
بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزَّة، الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك، فقرَّرت عام 1965 اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية، والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر، ثمَّ أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان.
وقد تركت مدَّة الاعتقال في نفسه آثاراً ذات أهمية لخصها بقوله: "إنَّها عمَّقت في نفسه كراهية الظلم، وأكدت (فترة الاعتقال) أنَّ شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية".
هزيمة 67 ..
بعد هزيمة 1967 التي احتل فيها العدو الصهيوني كلَّ الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة استمر أحمد ياسين في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العبَّاسي الذي كان يخطب فيه محرِّضاً على مقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر المقتولين والمعتقلين، ثمَّ عمل بعد ذلك رئيساً للمجمع الإسلامي في غزَّة.
وفي عام 1987م، اتفق أحمد ياسين مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي بغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه اسم " حركة المقاومة الإسلامية " المعروفة اختصاراً باسم "حماس".
بدأ دوره في حماس بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت آنذاك، والتي اشتهرت بانتفاضة المساجد، ومنذ ذلك الحين وأحمد ياسين يعدُّ الزَّعيم الرُّوحي لحركة حماس.
رجل غير عادي ..
لم يكن الشيخ (أحمد ياسين) رجلاً عادياً، بل عانى من الشلل الرّباعي، الذي يجعل من يصاب بمثله يكتفي بلقب ذوي الاحتياجات الخاصة إلاَّ أنَّ الشيخ ياسين أثبت أنَّ الأمَّة تحتاج إلى رجال من نوع خاص، رجال اتقدت أذهانهم، وأنيرت بصائرهم، وكانت أجسادهم وجوارحهم مستعدة لتقديم كلّ ما تملك لدعوتها ودينها.
كان الشيخ رحمه الله نبراساً منيراً في كلِّ مكان، في بيته وحارته، وفي مدرسته وسجنه، وفي مسجده وحلقاته، وكان معلِّماً بأسلوبه قبل كلماته، وكأنَّه يعيد للأمَّة ذكريات سلفها الذين كانوا نجوماً يهدون الحيارى والتَّائهين.
كان يبثُّ بين طلابه في مدرسته التي درّس فيها، روح الالتزام والتمسك بالدِّين، لأنَّه يعلم أن لا عزّة إلاّ بالتمسك بما أمر الله ورسوله، في حين كان الكثير من الناس يتهربون ممَّا يدعو إليه ويحث عليه.
تميَّز الشيخ، لأنَّه يعلم أنَّ الأمَّة لا تتغيَّر بالتنظير الفكري، وزخرفة الألفاظ والعبارات، بل تتغيَّر الأمَّة بالعمل الدؤوب، والتركيز على الناشئة من الشباب، لأنَّهم عماد الأمَّة وركنها وأبرز عوامل نصرها.
و هنا تميَّز الشيخ، لأنَّه يعلم أنَّ الأمَّة لا تتغيَّر بالتنظير الفكري، وزخرفة الألفاظ والعبارات، بل تتغيَّر الأمَّة بالعمل الدؤوب، والتركيز على الناشئة من الشباب، لأنَّهم عماد الأمَّة وركنها وأبرز عوامل نصرها.
إصلاح المجتمع ..
قضى الشيخ كلّ ما يملك من وقت في سبيل إصلاح الناس، ودعوتهم وحلّ مشاكلهم، لم يكن يقطن في برج عاجي يخاطب النَّاس من علو وتكبّر، بل كان ينصت لكبيرهم وصغيرهم، يسمع لمشاكلهم، ويحلّ قضاياهم، حتَّى صار علماً من أعلام غزَّة، بل من أعلام فلسطين.
يصفه أهل بيته بأنَّه كان مثالاً للرَّجل الذي يعيش للإسلام، فكان يقدّم كلّ حياته وجهده ووقته لدينه، لأنَّه فهم معنى الرَّبانية، وعلم أنَّ الحياة لابدَّ وأن تكون بكلِّ حركاتها وسكناتها في سبيل الله ودعوته.
ولم يكتف الشيخ أن تشير إليه الأصابع بالإشادة، وأن تذكره الألسنة بين الجموع والحشود، بل كان هذا كله مقدّمة لأن يقوم بأعظم إنجاز صنعه رجل في فلسطين، وهو إقامة حركة إسلامية تتبنى منهجاً ربانياً لمقاومة المحتل، وتطهير الأرض من دنسه وفساده، ليستكمل الشيخ الشهيد، مسيرة الإمام الشهيد؛ حسن البنا رحمه الله، والذي كانت عينه دائماً ما تنظر إلى فلسطين لتطهيرها وتحريرها، حيث أرسل الآلاف من كتائب الإخوان ليسطروا بدمائهم أروع صور البطولة والفداء.
قضية فلسطين ..
كان الشيخ يؤمن تمام الإيمان، أنَّ قضية فلسطين هي قضية إسلامية، ولا يمكن بحال أن تحول لأمر آخر، ولهذا زرع إسلامية القضية في نفوس أبنائه، في المساجد، والدروس، وفي كل مناسبة من المناسبات.
ورغم المعوّقات التي ستلاقي من يقوم بهذا الأمر، إلاَّ أنَّ الشيخ كان يصرّ على متابعة المشوار، غير آبهٍ بما سيلاقيه، فأعلن انطلاقة الحركة، لتتحمّل بدورها الحمل الأكبر للانتفاضة الأولى عام 1987م.
تعرّض الشيخ للاعتقال مرَّات عديدة، لسنوات كثيرة، وتعرّض للتعذيب والأذى، والحبس والمعاناة، ولم يضعف أو يستكين، بل صبر وثبت، فكانت نظراته ترعب سجانيه، وكان شموخه أقوى وأصلب من تلك القيود التي وضعت بين يديه ورجليه.
كان الشيخ يضرب أروع الأمثلة في الصّمود أمام غطرسة الاحتلال، رغم ضعف جسده، وكبر سنه، لكنَّه بصموده كان ملهماً لشعبه، وكان وقوداً لنهضته وثباته ومقاومته.
وليس هذا فحسب، بل كان الشيخ يثبت إخوانه في السجون، ويظهر لهم كيف يجعل الدَّاعية المجاهد من كل ظرف من ظروف حياته وسيلة من وسائل التعليم والاقتداء.
فقد كان يرفع معنويات إخوانه، يثبتهم ويحثهم على الصَّبر، ويشدّ من عزائمهم، فجعل من هؤلاء أعزاء يذلون اليهود ويضربون أروع صور العزة والكرامة، في زمن تسابق فيه الكثير للذل والاستسلام.
وحينما خرج الشيخ من سجنه عام 1997م، كانت عزيمته قد ازدادت اتقاداً، وهمَّته قد زادت اشتعالاً، فراح يجهز حركته لجولة أخرى من جولات البطولة وملاحم العزة، حتَّى انطلقت انتفاضة الأقصى عام 2000، ليكون رمزاً من رموزها.
لقد كانت كلمات الشيخ التي تصدر من صوته الضَّعيف، وجسده النَّحيل، أشدّ من طائرات اليهود ودباباتهم، وأكثر أثراً من صواريخهم ونيرانهم، فما كان منهم إلاَّ أن يقتلوه، بصواريخ غادرة من جيش جبان، ليستهدفوا جسده الطاهر، فيرتقي للعلا شهيداً، وليحقِّق أمنيته التي ردَّدها كثيراً: " أملي أن يرضى الله عنِّي".