بقلم : محمَّد حسين
قدر الله لي أن أحظى بشرف السفر إلى أرض المجاهد الكبير عمر المختار، ولا أخفيكم سرّاً أنّي ذهبت الأسبوع الماضي للأراضي الليبية، وترسخت في مخيلتي صورة ذهنية بأني سأجد ثورة عشوائية، ورجال تلوَّثوا طوال 40 عاماً بعقلية ديكتاتور لا يعرف سوى متع الحياة، إلاَّ أنَّني بمجرّد أن وطأت قدماي أرض ليبيا وعلى وجه الخصوص بنغازي معقل الثوار إلاَّ وبدأت معتقداتي تتبدّل؛ حيث وجدت شباباً وفتية لا يمكن إلاَّ أن يقال عنهم: إنَّهم رجال قد ملّوا من هذا النظام وأعلنوها مدويّة أنَّ ثورتهم ليست ثورة جياع أو ثورة خبز، وإنَّما ثورة استرداد كرامة أهدرها النِّظام الأمني لمعمّر القذافي.
ولعلَّ أهم ما لاحظته خلال رحلتي ذات السويعات المحدودة أنَّ هؤلاء الشباب استدعوا سيرة المجاهد الليبي الكبير عمر المختار، وساروا على دربه الجهادي منطلقين من المساجد.
كان هناك العديد من المشاهد التي أدركت فيها أنَّ النَّصر سيكون، بإذن الله، حليف هؤلاء الثوار مهما طال أمد العدوان السَّافر، فإنَّما النصر صبر ساعة.
أولى هذه المشاهد ظهرت على الأخ الليبي الذي لم أعلم من اسمه سوى عمران، والذي اصطحبنا من مرسى مطروح إلى بنغازي، ففي أثناء الطريق ونحن على مشارف بنغازي بعد أن قطعنا نحو 800 كلم من مطروح آخر محافظة حدودية في مصر، طلب منَّا ممثل إتحاد الأطباء العرب ببنغازي عدم دخول المدينة والعودة على الفور إلى الحدود المصرية، لأنَّ هناك استهدافاً صريحاً من قبل قوَّات القذافي للأطباء والصَّحفيين، فضلاً عن وصول معلومات لهم بأنَّ قوَّات القذافي تتجه إلى بنغازي لدكها بالمدفعية والصواريخ، فما كان من المرافق الليبي إلاَّ أن عرض علينا أن نبيت ليلتنا في مكان آمن على أطراف بنغازي عند أبناء عمومته، بعد أن قرأ في عيوننا الحيرة؛ إذ كيف نقطع كل هذه المسافة دون أن نصل بنغازي، ونحقِّق هدفنا، وبعد أخذ رأي جميع المرافقين تمَّ الاستقرار على هذا الرَّأي، وما أن وصلنا المكان المحدّد إلاَّ ووجدنا شباباً مرابطاً ينتظر قدوم قوَّات العقيد، يحمل السّلاح، وينتشر في شكل لجان شعبية، استقبلنا هذا الشباب بحفاوة وكرم بالغين، وتعاملوا معنا على أننا أصحاب فضل رغم أننا لم نقدّم لهم أيّ دعم إلاَّ أنَّهم رأوا أننا قدَّمنا لهم أكبر دعم معنوي.
بتنا ليلتنا في هذه الدَّار الواسعة التي تبعد عن مطار بنغازي 4 كيلو متر، وقبل صلاة الفجر، استيقظت فجأة فوجدت أحد مرافقينا وهو طبيب قطري قد اسيتقظ وقد وجد مرافقنا الليبي يصلِّي فسأله: هل أذَّن لصلاة الفجر، قال: (لا دي صلاة الثلث)، في إشارة إلى الصَّلاة في الثلث الأخير من الليل، نزلت هذه المقولة على مسامعي برداً وسلاماً، وأدركت على الفور مقولة صلاح الدين الأيوبي الذى كان يتفقَّد خيام قواته، فوجد خيمة تقيم الليل، فقال لرفاقه: (من هنا يأتي النصر).
ولم يكن هذا المشهد الوحيد الذي أشعرني بأنَّ النصر قادم، ففي الصَّباح قمنا بجولتنا، وأخبرنا أحد الأخوة الليبين بالعديد من القصص الرَّائعة، والتي كان من بينها أنَّه حينما اشتد القتال بين الثوار وبين قوات القذافي في واقعة رئيسة؛ عرفت بمعركة الكتيبة، وهي أكبر معاقل القذافي العسكرية والأمنية في المنطقة الشرقية، اختفى شباب لم يعرف عنهم الصَّلاة من ميدان المواجهة لمدَّة من الزمن، ثم عادوا مرَّة أخرى فعندما سئلوا: أين كنتم؟ قالوا: ذهبنا للاغتسال والصَّلاة والاستعداد للشَّهادة.
ما أن انتهينا من جولتنا حتَّى ذهبنا لصلاة الظهر، وجدت شباباً ممَّن يبدوا عليهم مظاهر محاكات وتقليد الغرب، وقد ملؤوا المسجد عن بكرة أبيه، حتَّى أنني اعتقدت أنّي أصلى الجمعة في أحد أحياء القاهرة، وأخذ المصلين في ترديد تكبيرات عيد الأضحى بوصفها تكبيرات النصر.
تواترت هذه المشاهد أمام عيني، وترسّخت لديَّ قناعة أنَّ النَّصر يجب أن يكون حليفَ مثل هؤلاء على نظام أدمن تبديد ثروات البلاد على الملذات الشخصية وإرهاب بني جلدته.