في تعامل رسول الله مع خصومات الصَّحابة عِبَر

الرئيسية » بصائر تربوية » في تعامل رسول الله مع خصومات الصَّحابة عِبَر

إنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم بشرٌ مثلنا، يغضبون ويخطؤون، ولكنَّ الشَّيء الذي يفضّلهم هو رجوعهم إلى الحق  متَّى ما عرفوه، أو نُصِحُوا به، وقد كان الرَّسول صلَّى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يرجعون إليه في كلِّ خصوماتهم وخلافاتهم، فيعطي البلسم الشَّافي والدَّواء الكافي، ويقدّم لنا القدوة الصَّالحة في التَّعامل مع الخصومات، وتطالعنا كتب الحديث  والسيرة النبوية بأحاديث وقصص تروي لنا خصومات وقعت بين الصَّحابة، وكيفية تعامل نبيّنا محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام معها، فمن هذه القصص ...أبو ذر الغفاري وبلال ..

وقعت خصومة بين صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح ، فغضب أبو ذر، وقال لبلال : يا ابن السَّوداء، فشكاه بلال إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فدعاه النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال : أساببت فلاناً ؟ قال : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : فهل ذكرت أمه ؟ قال : مَنْ يُسَابِبِ الرِّجَالَ ذُكِرَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : ((إنَّك امرؤ فيك جاهلية)).
فقال أبو ذر : نعم . فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم : ((إنَّما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه)). فمضى أبو ذر حتَّى لقي بلالاً، ثم اعتذر، وقعد على الأرض، بين يدي بلال، ثم جعل يقرِّب من الأرض حتى وضع خدَّه على التُّراب، وقال : (يا بلال، طأ برجلك على خدِّي).

مع القصة ..

تؤكّد ثنايا هذه القصة بشرية الصَّحابة، وأنَّهم قد يقعون  في الخطأ والزَّلل، وقد يغضب أحدهم ويقول كلمة نابية، وقد يتصرّف أحدهم تصرّفاً من منطلق فهمه وتصوّره الذي ربّما يكون قد جانب الصَّواب، لكنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم جميعاً يرجعون إلى الصَّواب ويتداركون الخطأ ويسدّون الخلل، ولا يتمادون فيه ولا يستمرون أو يتمسكون بالخطأ بعد بيان الصَّواب، ففي هذه القصة يبادر أبو ذر رضي الله عنه بالاعتذار من بلال بن رباح رضي الله عنه، فهم يدركون أنَّ الاعتذار من الخطأ  يرفع من قدر الإنسان، وليس من العيب الاعتذار، ولكنَّ العيب كلّ العيب في الاستمرار  في الخطأ.
فمهما كان الخطأ لفظياً أو فعلياً، ومهما كان حجم المخاصمة والخلاف، فلا بد من تصحيح الخطأ وإزالة  دواعي المخاصمة حتَّى ترجع القلوب إلى بعضها وتتآلف على الحق، فقلوب الصَّحابة بيضاء كبياض الثلج، وبهذا الصَّفاء والنّقاء وطهارة السريرة، نصرهم الله  فملكوا العالم.
وفي موقف أبي ذر وبلال رضي الله عنهما  ما يؤكِّد  بوضوح شموخ الصحابة وخلقهم العالي في الرجوع والامتثال إلى الحق والصواب، فلا مكان لحظ النفس، ولا مجال للتكبّر والتَّعالي.

معنى الجاهلية ..

فسَّر ابن الأثير في كتابه (النّهاية في غريب الحديث) معنى كلمة الجاهلية بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصَّلاة والسَّلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم، فمن لم يكن أبو ذر رضي الله عنه كافراً، بل كان من أصدق الصَّحابة إيماناً، ومع هذا أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ فيه جاهلية، ولم يقل له: أنت جاهلي، وهذا معناه أنَّ الجاهلية ليست كفراً دائماً، وكلّ مَنْ أذنب وعصى ففيه جاهلية بمقدار ذنبه ومعصيته، مع أنَّه مسلم صالح.
قال ابن حجر في (فتح الباري) : (ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه فكانت تلك الخصله من خصال الجاهلية باقية عنده).

تعامل الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ..

إنَّ تربية محمَّد صلَّى الله عليه وسلّم  لصحابته تربية حكيمة، لا تجعل أحدهم يبحر في الغلط ويكابر به، ويعدُّ تعامله عليه الصَّلاة والسَّلام  مع الصَّحابي الجليل أبي ذر منهجاً في الحلم والتأثير، وقد أجاب بكلمة نعم، وأنَّه امرؤ به جاهلية، فلم يغضب الرَّسول صلَّى الله عليه وسلم لمعرفته بأخلاق أبي ذر وصدق إسلامه.
لقد تعامل رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم بحكمة بالغة مع هذه الخصومة، ووجَّه خطابه التَّربوي لأبي ذر ولأمته الإسلامية من بعده، وليكون ذلك دستوراً ومنهاجاً في التعامل فيما بينهم، قائماً على الكلمة الطيّبة والمعاملة الحسنة، والتَّواضع عدم التكبّر والتَّعالي على بني البشر، وخفض الجناح مع الأقربين.
إنَّها رسالة لكلِّ مسلم  يلي أفراداً أو يعولهم، إنَّه خطاب لمن عنده عامل أو خادم أو موظف .. (إنَّما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه .. فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه).

دروس وعبر..

-إنَّ كثيراً من الخصومات والخلافات  قد تؤسّس لعداوات تستمر سنوات وسنوات،  بينما يكون حلها سهلاً  بعبارة الاعتذار  وكلمات .. (أنا أخطأت ... اعتذر لك ... سامحني .. حقك عليّ .. ما يصير خاطرك إلاّ طيب ).

-إنَّ التواضع وعدم الاستمرار بالخطأ  سلاح لحلِّ كل مشكلة وخلاف بين الإخوة.

-ليست الشَّجاعة أن تستمر في خطئك، وإنَّما هي الاعترافُ به بصدر رحب، والعمل على إزالة كل ما يشوب صفاء السريرة والحب في الله.

-لقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم أحرص ما يكون على نشر روح المساواة بين البشر، فلا اعتبارات لديه للّون، أو الجنس، أو المكانة، بل الجميع لديه سواء يتفاضلون بالتَّقوى وبالخلق القويم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …