عمر المختار.. أسد الصَّحراء المجاهد

الرئيسية » بصائر الفكر » عمر المختار.. أسد الصَّحراء المجاهد
alt

خاص – بصائر

كانت آخر كلمات له قبل إعدامه يوم السَّادس عشر من شهر أيلول/سبتمبر عام 1931م: (نحن لا نستسلم .. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النِّهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه.. أمَّا أنا.. فإنَّ عمري سيكون أطول من عمر شانقي) ..

 

إنَّه عمر المختار الملقَّب بشيخ الشهداء أو أسد الصَّحراء، الَّذي قاد مهمَّة تربية جيل للجهاد ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، والذي حارب الإيطاليين وهو يبلغ من العمر 53 عاماً لأكثر من عشرين عاماً في أكثر من ألف معركة، واستشهد بإعدامه شنقاً عن عمر يناهز 73 عاماً.

نشأته..

ولد الشيخ الجليل عمر المختار عام 1862م، وقيل: 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات الذي يمتد نسبه إلى قريش بشبه الجزيرة العربية، وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ في بيت تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة.

دخل مدرسة القرآن الكريم بالزَّاوية، ثم التحق بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى، ظهرت عليه علامات النبوغ منذ صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب، مكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة؛ كالفقه والحديث والتفسير.

اشتهر بالجديّة والحزم والاستقامة والصَّبر، وأصبح على إلمام واسع بشؤون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسّع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فضّ الخصومات البدوية، وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات.

كما أنَّه أصبح خبيراً بمسالك الصَّحراء، وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسّودان في الخارج، وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها.

عبادته..

كان عمرُ المختار شديدَ الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها، وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كلّ سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي: يا عمر، (وردك القرآن)، وكان يتلو القرآن الكريم بتدبر وإمعان كبير.

كان يؤمن بأنَّ المحافظة على تلاوة القرآن والتعبّد به تدلّ على قوَّة الإيمان، وتعمقه في النَّفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلَّى به عمر المختار انبثق عنه صفات، كالأمانة والشَّجاعة، والصِّدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع، وقد تجلَّى هذا الإيمان في حرصه على أداء النوافل، وقيام الليل، واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.

جهاده..

عندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في 29 أيلول/سبتمبر 1911م، وبدأت البارجات الحربية بقصف مدن الساحل الليبي كان عمر المختار في تلك الأثناء مقيما في جالو، وعندما علم بالغزو سارع إلى مراكز تجمع المجاهدين؛ حيث ساهم في تنظيم حركة الجهاد والمقاومة.

 

بعد الانقلاب الفاشي في إيطاليا في تشرين الأول/أكتوبر 1922م، وبعد الانتصار الذي تحقّق في تلك الحرب إلى الجانب الذي انضمَّت إليه إيطاليا، تغيَّرت الأوضاع داخل ليبيا واشتدت الضغوط على السيد محمَّد إدريس السنوسي، واضطر إلى ترك البلاد، وغادر إلى مصر، عاهداً بالأعمال العسكرية والسياسية إلى عمر المختار، في الوقت الذي قام أخوه الرِّضا مقامه في الإشراف على الشؤون الدينية.

بعد أن تأكَّد للمختار النَّوايا الإيطالية في العدوان، قصد مصر عام 1923م، للتشاور مع السيّد إدريس فيما يتعلَّق بأمر البلاد، وبعد عودته نظم أدوار المجاهدين، وتولى هو القيادة العامة.

بعد الغزو الإيطالي على مدينة أجدابيا مقرّ القيادة الليبية، أصبحت كل المواثيق والمعاهدات لاغية، وانسحب المجاهدون من المدينة، وأخذت إيطاليا تزحف بجيوشها من مناطق عدَّة نحو الجبل الأخضر، وفي تلك الأثناء تسابقت جموع المجاهدين إلى تشكيل الأدوار، والانضواء تحت قيادة المجاهد عمر المختار، كما بادر الأهالي إلى إمداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح، وعندما ضاق الإيطاليون ذرعاً من الهزيمة على يد المجاهدين، أرادوا أن يمنعوا عنهم طريق الإمداد فسعوا إلى احتلال الجغبوب، ووجهت إليها حملة كبيرة في 8 شباط/فبراير 1926م.

 

توالت الانتصارات، الأمر الذي دفع إيطاليا إلى إعادة النَّظر في خططها وإجراء تغييرات واسعة، فأمر "موسوليني" بتغيير القيادة العسكرية، حيث عين "بادوليو" حاكماً عسكريا على ليبيا في كانون الثاني/يناير 1929م، ويعد هذا التغيير بداية المرحلة الحاسمة بين الإيطاليين والمجاهدين.

 

تظاهر الحاكم الجديد لليبيا في رغبته للسلام لإيجاد الوقت اللاَّزم لتنفيذ خططه، وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده، وطلب مفاوضة عمر المختار، تلك المفاوضات التي بدأت في 20 نيسان/أبريل 1929م.

استجاب الشيخ لنداء السَّلام وحاول التفاهم معهم على صيغة ليخرجوا من دوامة الدَّمار، فذهب كبيرهم للقاء عمر المختار ورفاقه القادة في 19 حزيران/يونيو 1929م، في سيدي ارحومه، ورأس الوفد الإيطالي "بادوليو" نفسه، الرّجل الثاني بعد "بنيتو موسليني"، ونائبه "سيشليانو"، ولكن لم يكن الغرض هو التفاوض، ولكن المماطلة وشراء الوقت لتلتقط قواتهم أنفاسها، وقصد الغزاة الغدر به، والدس عليه، وتأليب أنصاره والأهالي، وفتنة الملتفين حوله.

 

عندما وجد المختار أنَّ تلك المفاوضات تطلب منه إمَّا مغادرة البلاد إلى الحجاز أو مصر أو البقاء في برقة وإنهاء الجهاد والاستسلام مقابل الأموال والإغراءات، رفض كل تلك العروض، وكبطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى الاختيار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة.

دفعت مواقف المختار ومنجزاته إيطاليا إلى دراسة الموقف من جديد، وتوصلت إلى تعيين "غرتسياني"، وهو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية، ليقوم بتنفيذ خطة إفناء وإبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في وحشيتها.

 

المختار في الأسر..

 

في 11 أيلول/ سبتمبر من عام 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة الجبل الأخضر في كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقان في وادي بوطاقة، ورجَّحت الكفَّة للعدوّ، فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرّق، ولكن قُتلت فرسه تحته، وسرعان ما حاصره العدو من كلّ الجهات وتعرَّفوا على شخصيته، فنقل على الفور إلى مرسى سوسه في الجبل الأخضر، ومن ثمَّ وضع على طراد الذي نقله رأسا إلى بنغازي، حيث أودع السّجن الكبير بمنطقة سيدي اخريبيش.

ولم يستطع الطليان نقل الشيخ برّاً لخوفهم من تعرّض المجاهدين لهم في محاولة لتخليص قائدهم.

كان لاعتقاله في صفوف العدو، صدىً كبيراً، حتى أنَّ "غراتسياني" لم يصدّق ذلك في بادئ الأمر، وكان "غراتسياني" في روما، حينها كئيباً حزيناً منهار الأعصاب في طريقه إلى باريس للاستجمام والرَّاحة تهرّباً من السَّاحة بعد فشله في القضاء على المجاهدين في الجبل الأخضر؛ حيث بدأت الأقلام اللاذعة في إيطاليا تنال منه، والانتقادات المرة تأتيه من رفاقه، مشككة في مقدرته على إدارة الصراع، وفي حينها تلقى برقية مستعجلة من بنغازي مفادها إن عدوه اللدود عمر المختار وراء القضبان، فأصيب "غراتسياني" بحالة هستيرية كاد لا يصدق الخبر، ولم يسترح باله فقرر إلغاء أجازته واستقل طائرة خاصة وهبط ببنغازي في اليوم نفسه ، وطلب إحضار عمر المختار إلى مكتبه، لكي يراه بأم عينيه.

 

المحاكمة..

يصف "غرتسياني" في كتابه (برقة المهدأة) مشهد محاكمة عمر المختار قائلاً: "وعندما حضر أمام مكتبي تهيّأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصّحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه، ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال، له هيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح".

"غراتسياني": لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟

أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني.

"غراتسياني": ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

فأجاب الشيخ: لا شيء إلاَّ طردكم.. لأنَّكم مغتصبون، أمَّا الحرب فهي فرض علينا، وما النَّصر إلاَّ من عند الله.

"غراتسياني": لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟

فأجاب الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أيَّ شيء.. وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلم أو نلقي السلاح…

 

ويستطرد "غرتسياني" حديثه: "وعندما وقف ليتهيّأ للانصراف كان جبينه وضاء كأنَّ هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصّحراوية ولقبت بأسد الصَّحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان، ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة، وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء".

عقدت للشيخ الشهيد محكمة صورية في مركز إدارة الحزب الفاشستي ببنغازي، مساء يوم الثلاثاء 15 أيلول/سبتمبر 1931م، عند السَّاعة الخامسة والرّبع، وبعد ساعة تحديداً صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقاً حتَّى الموت.

 

مشهد الإعدام..

 

في صباح يوم 16 أيلول/سبتمبر من سنة 1931م، وعند السَّاعة التاسعة صباحاً، جمع الطليان حشدًا عظيماً، وأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية إعدام الشيخ عمر المختار، فحضر ما لا يقل عن عشرين ألف نسمة.

ونفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الإعدام شنقًا في شيخ الجهاد، وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير، ويا لها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة، وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله.

 

لقد كان الشّيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشَّهادة، وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرّد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلِّق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوّي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار، إذ ربَّما يتحدّث إليهم أو يقول كلاماً يسمعونه، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.

فصعدت روحه الطَّاهرة إلى ربِّها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرَّهيب ينظرون إلى السيد عمر، وهو يسير إلى المشنقة بخُطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد، وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمنزلة التحيَّة الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقرَّبين منه -ومنهم ليبيون- أنَّه صعد سلالم المشنقة، وهو يؤذّن بصوت هادئ أذان الصَّلاة، وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27، 28].

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …