وقفة مع منظومة الثَّوابت في العمل الدّعوي

الرئيسية » بصائر الفكر » وقفة مع منظومة الثَّوابت في العمل الدّعوي
alt

ليس بالمُعجزِ أنْ تَصنع القيود.. فالمهارةُ أن تُتقِن صنعَ الحريَّة.. لتُصبح نمطاً للتَّفكير وأداةً للتَّغيير..إنّ الحديث عن ثوابت الخطاب الإسلامي تنبع من أهميته بصفته أداةً للتَّبليغ وإيصال الرِّسالة، وهو في الوقت ذاته مقياسٌ دقيقٌ يقيّم مقدار الوعي الذي يتمتع به حَملةُ هذا الخطاب ودُعاته..

واحدٌ من أسرار خلودِ الشَّريعة هو تركُ الباب مُشرعاً لتفصيلاتِ الأحكام، وخصوصاً ما يتعلَّق بها في منهج إرساء الشريعةِ إنْ في نفوسِ المدعويّن أو في حياةِ النَّاس وعلى أرضهم.. لذا كان من الطبيعي أن تنْتكسَ كل تلك الدَّعوات، وإنْ ادّعت التصاقها بالمنهجِ الإسلامي، وأن تسقط أدبياتها عند كلّ تغيّر يطرأ في الحياة يستوجب معه تغيّراً لنمط التَّفكير، ليصبح ما اصطلح على أن يكون من المُسلّمات والثوابت وخطوطاً حُمراً ضمن دائرة المتغيّرات وليستباح الخوض فيه بعد أن كان مُحرّماً.. وها هنا تكمن الإشكالية..!!
إشكالية إطلاق الأحكام جُزافاً.. وتصنيفها ضمن دوائر الحلال والحرام.. بإدراج كلّ الفرعيات ضمن دائرة الثوابت؛ والفرعيات في أصلها متغيّرة وليست بثابتة!!


ثوابتُ في منظومةِ ثوابت..

إنّ أيّ ثوابت تُرسم في خطة التغيير لا بدّ أن تكون جزءاً من منظومة ثوابت الشَّريعة التي لا تتبّدل.. من مراعاة للمقاصد الشَّرعية، والاهتمام بالقواعد الكليّة، والارتكاز على القطعي من التنزيل بثبوته ودلالته.. والدَّارس لهذا الخط في العهد النبوي تستفزّه صنعةُ الرَّسول محمَّد صلَّى الله عليه وسلم.. وحكمته الفريدة.. فكم من إصارٍ وضعها عن السَّالكين برسمه أُطُرَ العمل العام.. دونَ خوضٍ في مزيدِ تفصيلٍ ليتركَ من بعدُ لأصحاب العملِ الجادّ اجتهادهم.. وما زال صدرُ أبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنه شاهداً على رضى رسول الهُدى عليه السلام فيما روى أبو داوود رحمه الله أنَّه صلَّى الله عليه وسلّم لمّا أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن، قال له: (كيف تقضي إذا غلبك قضاء؟) قال: أقضي بكتاب الله، قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال بسنة رسول الله، قال: (فإن لم تجد؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضربَ صدْرَهُ، وقال: (الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله) . (رواه أبو داود، وفي الحديث ضعف).
ولتجد الخلفاء الرَّاشدين من بعدُ أوائلَ المقتبسين من مشكاةِ النبوّة.. فإن أنت طوّفتَ في كتاب الله وفي سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي تاريخهم الوضّاء طولاً وعرضاً تكاد ألاّ تقع على أيّ من الثوابت القطعية في منهج التغيير إلا نَزْراً يسيراً.. كيف لا.. وقد ذهب جمهور أهل العلم أنّ منهج التغيير بكلّيته هو منهجٌ توفيقيّ لا توقيفيّ..
لنلقي الضّوء على شيءٍ من ثوابت العمل الدَّعوي..

أولاً: التَّغيير المدني..

نماذجُ التغيير المرضيّ التي عرضها الكتاب الكريم كانت وسيلةُ التَّغيير المدني فيها هي الأصل.. قائمةٌ على الحجَّة والبرهان كسبيلٍ لتحقيق التغيير المنشود.. فهي بالموعظة الحسنة تارةً، وبالجدال بالتي هي أحسن في أخرى، وبتبيين المعجزات في ثالثة.. وهكذا.. في نَمَطٍ سلميّ لا يتبدّل.. هذا والحديث عن التَّغيير من كُفرٍ لإيمان.. ومن ضلالٍ إلى هداية.. أمَّا والحال كذلك.. فهو لإصلاح المجتمعات المسلمة، وإذكاء روح الدِّين فيها أولى وأجدرُ بالاتّباع..

والحراكُ السّلمي الذي قادته حشود الأنبياءِ من لَدُن نوحٍ وإبراهيم وموسى وغيرهم عليهم السَّلام كان تأكيداً لهذا المعنى وتَجْلِيةً لصورته.. فكلّهم كان يأوي لركن الله الشَّديد.. مؤيّداً بالوحي.. لكنّها حكمةُ الله البالغة لرسم الطَّريق.. ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) ( يوسف:111)، لتتوّج هذه الحشود بالنبي الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم..

وليأتي من بَعدُ حَمَلَةٌ لهذا الهَدي في كلِّ مكانٍ وزمانٍ.. يتخذون من المقارعة بالحجّة (مبدأً) للذودِ عن حياض الدين وعُرَاهُ واحدةً بعد أخرى -مخافةَ أن تُنقضَ- وإن سالت في سبيل ذلك الدماء.. ولأيّ ذنبٍ غير هذا.. قُتل الحسين رضي الله عنه؛ ريحانةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مظلوماً وثُلّة من أهل بيته النجباء؟؟!! ثُمّ أتى ابن جبيرٍ ليسيل دمهُ على النَطع عند الحجاج.. وابن تيمية ليقضيَ في السجن.. وغيرهم في سلسةٍ لن تنتهي ما بقيَ الخير في أمَّة الإسلام..
قَلّبْ صفحاتِ الكتاب أنّى شئت لتسمع صدى تلكم الكلمات الخالدات: ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (الشعراء:109)، على ألسن الدُّعاة والمصلحين وسائر المرسلين يتردّد في كلّ حين..

ثانياً: قاعدة الإدارة والحكم..

وردت (الشورى).. هذه القاعدة العملية في الإدارة والحكم معاً في القرآن الكريم مرَّتين.. بأمر صريحٍ مرةً: ((فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)) (آل عمران:159)، وبوصفٍ للطائفة المرضيّة في سورةٍ سُمّيت باسم (الشورى) في أخرى: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (الشورى:38)، وأُحيلكَ لاتساق هذه الآية بما قبلها وما بعدها، ولتنظر أيّ نسقٍ بديعٍ مَزجَ صفاتِ الفرد والجماعة والمجتمع في كلٌّ واحدٍ لا ينفكّ أحدها عن الآخر..

إنَّ أيَّ إهدارٍ للشورى.. لأيّ سببٍ كان هو حَيْدةٌ بَيّنَةٌ عن المنهج الرَّباني الذي خصّ فيه هذه القاعدة العامَّة لتكون الخط العام لا للمنهج التغييري فحسب.. بل لمَعاش النَّاس وحياتهم على المستويات كلّها.. ولتُعد القراءة مرَّة أخرى في آيات الشورى الثلاث.. ((وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴿39﴾)) (الشورى)، وإلى أيِّ مدىً تتدرج الصّفات آية بعد أخرى.. من منطلقات نفسية.. إلى سلوكٍ ذاتي.. ثم يفيضُ ليؤثّر.. فيُغيّر.. ويَكُفَّ يد البُغاة..

يكفي أن تعلمَ أنّ هذه الآيات هي آياتٌ مكّية؛ والقرآن المكيّ يعرض لمتطلبات بناء الفرد المسلم وإعداده لمرحلة التغيير، فهو دَأَبَ ليغرس هذه القيمة في العقل والوجدان لآحاد النَّاس ومجموعهم.. في صورة تعكس مدى إلزاميتها وأهميتها في البناء والتَّنفيذ..
وسيرة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم تزخر بتطبيقات هذه القاعدة العامة بأشكالٍ متعدّدة، وفي مواقف مختلفة.. في مكَّة بادئ الأمر وفي المدينة بعد ذلك.. سلماً وحرباً.. وما غزوة بدرٍ الكبرى؛ إعداداً وتنفيذاً ونتائجَ إلاّ واحدة من هذه التجلّيات النبوية الخالدة..
أمّا السلطة المنفردة التي لا يدانيها خطأ.. فهو فقه شاذ طارئ.. إنْ صَحّ أنْ يُسمّى فقهاً أصلاً!!

ثالثاً: لا قَداسةَ.. لأحدٍ..

يقول الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: ((نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم. ونهيتكم عن النَّبيذ إلاَّ في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها. ولا تشربوا مسكراً)) (رواه مسلم).
أيُّ عظمةٍ تلك.. وأيّ انقلابةٍ لتقييم مسألة أو مسائل –رغم فرعيتها- إلاَّ أنَّها ترسم خطىً عامةً للتراجع أحياناً عن إصدار الأحكام إلى نقيضها.. ممهورة بأسباب هذا التحوّل.. كما جاء في رواية أخرى للحديث: (نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن في زيارتها تذكرة) (رواه أبو داود والبيهقي).

هذا والحديث عن سلطة الله المطلقةِ على الأرض.. فكيفَ الحال وسلطة الله لم تعطَ لبشرٍ بعد رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام ؟
إنَّ النَّكسة العُظمى بحقّ.. تكون بإضفاءِ قدسيةٍ ما للدَّعوة الإسلامية سواء في مناهجها أو رجالاتها، بحيث تكون مرجعياتٍ لا يجوز تجاوزها.. حينئذٍ وعند أيّ اهتزازة لمكوّنات هذه الدَّعوات، سيكثُر الزَبد ويفيض.. وستبيّن حقيقة البحث عن النَّوع الثَّمين لا الكمّ المَهين!!
ونَفْيُ القدسيةِ سواءً عن أفراد هذه الأمَّة أو جماعتها.. هو شعارٌ طالما خطّهُ الأئمةُ المُتّبعون في الفقه من قبل: (كلٌّ يُؤخذُ منه ويردُّ إلا صاحبُ هذا القبر) كما عند مالك.. و (كنت أقول في المسألة كذا وأقول الآن فيها بكذا) عند الشافعيّ.. أما والحال هذه في أمور الديانة، فهي ألزم وآكد في أحوال الدنيا وتفصيلاتها..

هذه السُّلطة الإلهية المُدّعاة من البعض.. هي وجهٌ آخرُ لعمليةِ الإقصاءِ.. لكنها تُلبس ها هنا بلباس الدِّين والشَّرع.. فهم لا يحملون الصواب فحسب -بنظرهم- لكنَّهم يمثّلون الحق المطلقَ.. وليكن هذا النمطُ من التفكير سبباً لنفارِ الناسِ.. وبُعدهم.. فليست المآلاتٌ وحدَها كفيلة بإظهار حسن النيّة ونزاهة الوسيلة للناظرين!!

ارجع إلى حوار النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم عند اختيار الأنصار لنقبائهم وقت البيعة؛ إذ قال: ((أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي)). (أورده الألباني رحمه الله في فقه السيرة من طريق ابن حزم رحمه الله).
إنّه الدرسُ للسَّالكين من القدوة الأولى.. أنَّ الكلّ في منهجنا تحت طائلة المساءلة..

تَدفعنا المبادئ.. وتُلهمنا النَّماذج

وخلاصة القول : إنّ الخلطَ بين المبادئ الخالدة –التي أُمرنا أن نتعَبّدَ إلى الله بها- والنماذج التاريخية تسطيحٌ لعظمة الإسلام وشموله وبقائه.. ولذا وجبت الإشارة إلى ثوابت لا تتبدّل في طريق العمل للإصلاح والتغيير..
والدَّارس للمجتمع المدني أنموذجاً يجد عظمة هذا النّموذج بالمواءمة التي حملها بين المبادئ الخالدة والتطبيق التاريخي.. فلا يُعدّ مرجعاً بشكله الذي وجد فيه.. بل لأنَّ صانعيه استطاعوا إيجاد الانسجام بين المُثل والممارسات..
وهذا بالتَّحديد ما يحتاجه العاملون في سُبل التَّغيير كلّها.. دراسة جادّة للواقع.. ضمن سلسلة ثوابت الشَّرع.. وثوابت العمل.. ومن بعدُ.. فليُطلقوا العنانَ لجهدهم واجتهادهم..
إنّ أيّة محاولةٍ لاستنساخ النماذجَ التاريخية المثالية سيأتي بصورٍ مشوّهةٍ.. لن تستمرّ حياتها على الأرض طويلاً.. إن كُتب لها الحياة.. فلا الأرض أرضها.. ولا الزَّمان زمانها!!

-----------------------------------------------
يُنصح بدراسة كتاب (الإصلاح الجذري) للدكتور (طارق رمضان).

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

التدجين الناعم: كيف يُختطف وعي الأمة؟ (1-2)

قال تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ …