يقول الله تعالى في الآية 54 من سورة المائدة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
تتناول الآية الكريمة موضوعاً في غاية الأهمية لحماية الصَّف المسلم وتثبيته عند تعرّضه للاضطراب والاهتزاز في داخله، فالصَّف المؤمن قد يتعرض لهزَّات عقدية إيمانية، بحيث يقوم البعض بالارتداد على دينه وعلى دعوته، ممَّا يؤدِّي إلى تخذيل الصَّف المسلم، ونشر الشعور باليأس والإحباط في صفوفهم لترك هؤلاء دعوتهم ودينهم.
المناعة ..
يقرّر القرآن الكريم، مبدأ تربية المناعة كما قالها بعض العلماء، أو تقوية الحماية الدَّاخلية بحيث يكون المؤمن عصيّاً على الانهزام واليأس، وذلك أنَّ النفوس المؤمنة تتفاوت فيما بينها من حيث رسوخ الإيمان وتمكنه فيها، ولهذا قد يرتد ويخرج عن الصف المسلم بعض من لم يستقر الإيمان في نفوسهم، ولم ينل حظه من الرسوخ والتأثير.
لذا فالآية فيها رسالة للمؤمنين، مفادها أنَّ من يترك الصف المسلم فيرتد وينكص على عقبيه، فإنَّ الله عزَّ وجل سيبدل هذا الصف بأناس أكثر رسوخاً وإيماناً، وأكثر قوّةً وجهاداً، بحيث يتصفون من الصفات ما يجعلهم جيلاً يحقّق النصر والثبات ويحقّقون رضا الله عنهم ومحبته لهم.
فالآية فيها رسالة للمؤمنين، مفادها أنَّ من يترك الصف المسلم فيرتد وينكص على عقبيه، فإنَّ الله عزَّ وجل سيبدل هذا الصف بأناس أكثر رسوخاً وإيماناً، وأكثر قوّةً وجهاداً، بحيث يتصفون من الصفات ما يجعلهم جيلاً يحقّق النصر والثبات ويحقّقون رضا الله عنهم ومحبته لهم.
صفات جيل النصر ..
وقد وصف القرآن الكريم فئة جيل النَّصر بست صفات هي:
1- محبَّة الله لهم: فمحبَّة الله هي أسمى نعمة يتوق لها المؤمنون ويتطلعون إليها، والمؤمن الحق لا يبغي أجراً من الناس، بل يتشوّق لنيل رضا الله عليه، فهل هناك أسمى وأكرم من محبَّة الله لعباده المؤمنين!!
ولهذه المحبَّة علامات واضحة، منها : أنَّ الله تعالى يوفقهم لأداء الطَّاعات، وييسر لهم الخير في شؤونهم جميعاً، كما أنَّه يثيبهم أحسن الثواب، ويرضى عنهم ويثني عليهم، ومن مظاهر محبة الله تعالى لعباده المؤمنين أن يختارهم للقيام بواجب الإصلاح والتغيير، والسّعي لاستئناف حكم الله في الأرض، رغم ما يتعرَّضون له من أذى وتعذيب.
يقول الشهيد الحيّ سيّد قطب في تفسير الظلال : (إنَّ اختيارَ الله للعصبة المؤمنة لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض وتمكين سلطانه في حياة البشر وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم وتحقيق الصلاح والخير والطَّهارة والنَّماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة إنَّ هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته فمن شاء أن يرفض هذا الفضل، وأن يحرم نفسه هذه المنَّة فهو وذاك والله غنى عنه وعن العالمين، والله يختار من عباده من يعلم أنَّه أهل لذلك الفضل العظيم).
2- محبتهم لله تعالى: ومحبَّة المؤمنين لله تعالى هي السبب الذي يستجلب محبَّة الله التي تحدثنا عنها، ومن مظاهر هذا الحب : التوجه إليه وحده بالعبادة والمداومة عليها، واتّباع نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم في كلِّ ما جاء به، والاستجابة لتعاليم دينهم برغبة وشوق دون ملل أو ضجر. كما أنَّهم يسعون لابتغاء مرضات الله ولا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقوبته، وحبّهم ليس كأي حب، فهو نابع من عقولهم، ثمَّ يتسامى إلى جوارحهم وعواطفهم، فعندها يجعلون حياتهم لله، ومماتهم كذلك، وهم مستعدون للتضحية بأنفسهم في سبيل الله، لأنَّها من أبرز علامات الحب، وهي التي تميّز بين المؤمنين الصَّادقين، والمنافقين الكاذبين.
وقد أكدت النصوص القرآنية والنبوية أنَّ حبَّ المؤمن لله، لابد وأن يكون خالصاً لا يسبقه أو يخالطه شيء، ومن الأمثلة على هذه النصوص:
قال تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 24)
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)). ( متفق عليه).
3- التَّذلّل للمؤمنين: فقد وصفهم الله بأنَّهم أذلة لإخوانهم المؤمنين، وهو وصف للمبالغة في حبّهم لهم ورفقهم ولين جانبهم. فهم لا يستعلون أو يتكبرون عليهم، بل هم رحماء فيما بينهم، يضربون أروع الأمثلة على وحدة الصف المسلم وتماسكه، ووحدته وقوة تواده وتراحمه، فذلة المؤمن لأخيه المؤمن ترفع منزلته وتعلي شأنه، لأنَّ التَّواضع للمؤمنين يعني الرّفعة وعلو الشَّأن.
4- العزَّة على الكافرين: فهم أشداء على الكفَّار، ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب، وليس الضَّعيف الخانع، لأنَّهم مستعلون بإيمانهم، متوكلين على ربِّهم، ولهذا فهم لا يتنازلون عن ثوابتهم، ولا يستكينون لأعدائهم، ولا يرضون بأن يكونوا حراساً وخدماً لهم، فالمؤمن عزيز قويّ بإيمانه، وبحبه الله وطاعته له.
ولا تناقض بين هذه الصّفة ومن سبقها، فالمؤمن قد يكون عزيزاً في موقف، ذليلاً في موقف آخر، وذلك لأنَّ الله تعالى لا يريد أن يطبعنا على لون واحد من الانفعال، بل ننفعل تبعاً للموقف. فحينما يكون الموقف محتاجاً للعاطفة، فنواجهه بالعاطفة، وحينما يحتاج إلى العزَّة والبأس والاستعلاء، فنواجهه بما يلزمه.
كما أإنَّ المسلم لابد أن لا يكون مجبولاً على انفعال واحد، فلو اعتاد المذلة فقد يفقدها حينما يحتاج الموقف إلى عزّة وقوة، وكذلك فإن من يعتاد على القوة والعزة، قد يفقد المذلة في مواطن احتياجها، عند أسرته وإخوانه .نَّ المسلم لابد أن لا يكون مجبولاً على انفعال واحد، فلو اعتاد المذلة فقد يفقدها حينما يحتاج الموقف إلى عزّة وقوة، وكذلك فإن من يعتاد على القوة والعزة، قد يفقد المذلة في مواطن احتياجها، عند أسرته وإخوانه . ولهذا فالمؤمن لابدَّ وأن يوازن قوة انفعاله عند المواقف، فيجعل لكلِّ موقف من المواقف ما يناسبه من ردة فعل ومواجهة واتخاذ موقف.
5- الجهاد في سبيل الله: فالمؤمنون لا يكتفون بالطَّاعة والعبادة، ولا بالذكر والتّواضع للآخرين، بل هم يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمته ودينه، وليس للهوى والشيطان وحظ النفس، وهذه من أكثر صفات المؤمنين الصادقين خصوصية. وأعظم هذا الجهاد بذل النَّفس والمال في سبيل الله، خلافاً للمنافقين، الذين يملؤون السَّاحة صياحاً وتنظيراً لكنَّهم عند الجهاد لا يخرجون، بل يخذلون ويثبطون، وإن خرجوا ففي سبيل منفعتهم ومصلحتهم، مع الحرص على عدم خسارة نفوسهم وأموالهم، لذا فبالجهاد تظهر معادن الرِّجال، ويظهر فيهم تأثير الإيمان، ويمتاز الطيّبون عن الخبيثين، والمؤمنون عن المنافقين.
6- عدم الخوف من النَّاس: فهم يقولون كلمة الحق ويجهرون بها، لا يخافون من أحد، ولا يخافون لومة لائم، مهما كان نوعها، ومن أي كان مصدرها، لأنَّهم لا يخشون إلاَّ الله، وهم قد ضمنوا حبّ ربّ النّاس، فلا يخافون منهم، فدينهم راسخ، وإيمانهم ثابت، وهم لا يعملون رغبة بالجزاء من الناس أو الثناء من قبلهم، بل يعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل. فهم كما قال الزمخشري في تفسيره ((الكشَّاف)) : (صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف مضوا فيه كالمسامير المحماة لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم).
إنَّهم إذن يثبتون على المواقف، يحملون رسالة واضحة، لا تتغيّر معالمها بالانتقاد والإشاعات، ولا يخافون من التهديد والقمع والتخويف، بل هم كالشَّجر القويّ الصَّامد أمام الرِّيح العاتية، لا يميل ولا يترنح، ولا يهادن أو يتنازل.
إنَّ الصَّفَ المسلم الذي يتحلَّى بهذه الصِّفات العظيمة، هو الذي يجلب النَّصر والعزَّة للأمَّة، وهو الذي يحقّق التَّمكين للدِّين، فيحرّر الأوطان، والإنسان، من ظلم المحتل والمفسد والمستبد وحزب الشيطان.