للمساجد دورٌ كبير في عملية البناء التربوي والنهضوي لأفراد الأمَّة الإسلامية قاطبة، حيث شكَّلت منبراً بارزاً عبر التاريخ الإسلامي، يتلَّقى منه المسلمون الإرشاد والنُّصح والتَّوجيه في كل ما يخصّهم في مناحي الحياة كلِّها، وأضحى الخطيب في عالمنا اليوم يتحمّل مسؤولية ذات أهمية قصوى في إعادة ذلك الدور الرِّيادي للمساجد، وجعله مكاناً يستقي منه المؤمنون على مختلف شرائحهم الفهم الصَّحيح لهذا الدِّين، والتَّربية السَّليمة، والتوجيه النَّافع في الدِّين والدُّنيا، ولمعرفة الرِّسالة الحقيقية التي ينبغي أن يضطلع بها المسجد اليوم، وكيف ساهم المسجد في إعداد جيل النَّصر على مرّ التَّاريخ الإسلامي، وما الصّفات التي ينبغي أن يتصف بها الخطيب، التقت (بصائر) الشيخ الدَّاعية محمَّد نذير مكتبي، أحد خطباء دمشق المفوّهين، ومن أبرز المربّين الذين لهم تأثير في جيل اليوم من خلال خطبه ودروسه ومحاضراته في المساجد والمدارس والمعاهد.
نذير مكتبي في سطور ..
ولد في حلب عام 1949م، تلقى العلم في المدارس الرَّسمية، وحاز على إجازة في الآداب، قسم اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1975م.
تلقى العلوم الشَّرعية منذ صغره على يد العلاَّمة الكبير الشيخ عبد الكريم الرِّفاعي رحمه الله تعالى، وعلى أيدي تلاميذه الكبار.
مارس الإمامة والخطابة والتعليم في عدد من مساجد دمشق، ثمَّ أصبح إماماً وخطيباً ومدرساً في جامع حمزة والعبَّاس رضي الله عنهما في دمشق وما يزال قائماً فيه حتَّى الآن، وهو أحد خطباء الجامع الأموي الكبير ومن الخطباء المفوهين المميزين في سورية.
عمل في التدريس في المدارس والمعاهد الشرعية، كما عمل في التأليف وتحقيق كتب التراث، وأصدر عدداً من المؤلفات في العلوم العربية، والدراسات الشرعية والفكرية، من أبرزها : (خصائص تبليغ دعوة الله – صفحات مشرقات من حياة السَّابقين – صفحات نيرات من حياة السَّابقات – الفصحى في مواجهة التحديات – وبشِّر الصابرين – خصائص الخطبة والخطيب، وغيرها ..).
وإلى تفاصيل الحوار :
بصائر: هناك أسس بنى عليها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلّم دولة الإسلام في المدينة؛ منها بناؤه المسجد، ما دلالات ذلك من الناحية التَّربوية والدَّعوية ؟
لمَّا كانت الغاية العليا من وجودنا في هذه الحياة هي عبادة الله تعالى؛ لقوله جلَّ جلاله :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
ولمَّا كانت المساجد هي البقاع الطاهرة التي تتمحَّض لتحقيق العبودية الخالصة لله تعالى لما يجري فيها من الصَّلاة والذكر والدُّعاء وتلاوة القرآن والتفقه في الدين.
ولمَّا كان تكوين المجتمع الرَّباني هدفاً يصبو الإسلام إلى تحقيقه في الحياة، وهو ذلك المجتمع الذي يصطبغ بروح المسجد وفكر المسجد وأخلاق المسجد، أصبح المسجد لهذا كلِّه من أهم الركائز التي اعتمدها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بناء المجتمع الإسلامي الأوَّل، وتأسيس دولة الإسلام عندما هاجر إلى المدينة المنورة وحطَّ رحاله فيها، وجعلها قاعدة انطلق منها إلى العالم.
بصائر: كيف ساهم المسجد في تربية جيل الصَّحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان؟
إنَّ المتتبع لتاريخ المسجد في الإسلام يلمس أثره البالغ في تربية الرَّعيل الأوَّل من المسلمين الذي حمل مسؤولية الدَّعوة إلى الله تعالى، وتسلّمها من رسول الإسلام عليه الصَّلاة والسَّلام، وقام بنشر أنوارها بين النَّاس، فلم يكن المسجد في نظر المسلمين الأوائل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان مجرَّد بقعة من الأرض تؤدَّى فيها طقوس العبادة من صلاة وضراعة ودعاء، وإنَّما نظروا إلى المسجد من خلال تربية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهم على أنَّه الميدان الإيماني الطاهر الذي تسمو فيه الأرواح وتتهذب الأخلاق وتشرق العقول بمعارف الإسلام، وتتوثق في أجوائه الرَّوابط الاجتماعية والإنسانية، وتستقيم نفوس المؤمنين بروح النِّظام والانضباط، وتتحمَّل مسؤولياتها الدَّعوية في ظل التطبيق الكامل لمنهج الله وحسن الإقبال عليه.
فما زال التاريخ يحدِّثنا عن المسجد الحرام في مكَّة، ومسجد رسول الله في المدينة المنوّرة، والمسجد الأقصى في القدس، والمساجد الجامعة في بغداد والبصرة والكوفة في العراق، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد عمرو بن العاص والأزهر في مصر، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في المغرب، والمسجد الجامع في قرطبة، وأثر هذه المساجد في تربية العلماء وتخريج رجال الفكر والأئمَّة والقادة الذين صنعوا التاريخ وبنوا الأمجاد.
رسالة المسجد في الإسلام شاملة مستمدة من رسالة الإسلام نفسها؛ ففيه يتربَّى الجيل الصَّالح ، ويشعر المسلمون بدور المسجد وأثره في سمو أرواحهم وطهارة أعماقهم وتزكية نفوسهم وتقويم سلوكهم فينعطف ذلك على الحياة بتكوين المجتمع الرَّباني الذي يتمتع بأسمى خصال الرّوح والإيمان والفضائل والعلم والتقدم.
محضن تربوي ..
بصائر: برأيك ما الرِّسالة الحقيقية الذي ينبغي على مساجدنا أن تؤدّيها وتقوم بها في عالمنا اليوم؟
رسالة المسجد في الإسلام شاملة مستمدة من رسالة الإسلام نفسها؛ ففيه يتربَّى الجيل الصَّالح روحيّاً وفكرياً وأخلاقياً واجتماعياً ودعوياً، ويشعر المسلمون بدور المسجد وأثره في سمو أرواحهم وطهارة أعماقهم وتزكية نفوسهم وتقويم سلوكهم وتنوير عقولهم وصياغتهم صياغة تنسجم مع روح المنهج الإلهي وأخلاقه وقيمه ومبادئه ومعارفه، فينعطف ذلك على الحياة بتكوين المجتمع الرَّباني الذي يتمتع بأسمى خصال الرّوح والإيمان والفضائل والعلم والتقدّم والازدهار والحضارة والمدنية.
بصائر: هل تؤدِّي المساجد في العالم الإسلامي دورها المطلوب، وأين الخلل؟ وما المخرج لريادتها في مشروع نهضة الأمَّة ؟
المساجد اليوم منها ما يؤدِّي رسالته في الحياة كما ينبغي، ومنها :لا .
ولا ريب في أنَّ المساجد إذا حظيت بخطَّة دعوية شاملة، وقام فيها الدّعاة من الأئمَّة والخطباء بمسؤوليتهم حقَّ القيام، وتمتعوا بخصال الدّعاة الصَّادقين من الوعي والعلم والتفاني والإخلاص، وتوفرت لهم الأجواء الآمنة والحرية الكاملة للقيام بأمانة الدَّعوة إلى الله، فسوف يؤدِّي ذلك إلى تفعيل دورها الكبير في مشروع نهضة الأمَّة.
والمساجد التي لا تأخذ دورها العلمي في ريادة المشروع النَّهضوي في حياة الأمَّة يرجع فيها ذلك إلى ثلاثة أمور :
1-ضعف الكوادر الدعوية التي تنهض برسالة المسجد إلى أرفع مستوى (من أئمَّة وخطباء وعلماء ودعاة).
2-عدم توفر الحرية الكاملة التي يتمكن في ظلها القائمون على المساجد من أداء رسالتها كاملة.
3-فقد الخطط والبرامج الكفيلة بتفعيل رسالة المسجد بما ينسجم مع حاجة الجيل البشري المعاصر على فهم ووعي أساليب تطبيقه والعمل به.
الخطب المنبرية ..
بصائر: تعدُّ منابر المساجد من أقوى الأصوات المؤثِّرة في نفوس وقلوب المسلمين، برأيك هل خُطب المسلمين تؤدّي دورها اليوم كما هو المطلوب ؟ وما السبيل لتحقيق هذا الدَّور؟
إنَّ خطب المساجد اليوم تنقسم إلى نوعين :
- خطب تتمتع بخصال الخطبة المسجدية المؤثرة النافعة التي ترقى إلى مستوى أداء رسالتها في توعية الأمَّة والنهوض بها فكرياً وروحياً وسلوكياً، وذلك يرجع إلى خطبائها الذين يتحلّون بالنضج الفكري والعلم والإخلاص والوعي الكامل لمسؤولية الدّعاة إلى الله ربِّ العالمين.
- وخطب تفقد كثيراً من خصال الخطبة المسجدية المؤثرة، وترسف في أغلال التقليد والجمود الفكري، والخروج من دائرة الواقع المعاصر.
والخطبة المسجدية التي تؤدِّي دورها المؤثر في حياة المسلمين اليوم هي التي ترتكز على أمرين اثنين :
1-تطوير أسلوبها بما يتناسب مع معطيات عصرنا الحاضر.
2-أن تلمس بمواضيعها واقع النَّاس، وتعالج هموم الأمَّة وقضاياها الرَّاهنة، وتتناول ما يتوقف عليه صلاح الدنيا وصلاح الآخرة.
بصائر: لقد ألَّفتم العديد من الكتب في صفات الخطيب وخصائصه، برأيكم ما أبرز الصفات التي يجب أن يتحلّى بها خطباء المساجد؟
إنَّ من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلَّى بها خطيب الجمعة ليكون ناجحاً في أداء مسؤوليته الدَّعوية في خطبته :
أولاً- النضج الفكري والثقافة الإسلامية والإنسانية المعاصرة.
ثانياً- الأسلوب الخطابي الصحيح ( لغةً وإلقاءً).
ثالثاً – الصِّدق والإخلاص والعاطفة الجيَّاشة.
رابعاً- أن يعيش في موضوع خطبته مع واقع الأمَّة، ويتحسَّس همومها ومعاناتها وتطلعاتها وآمالها، لا أن يكون وادٍ والأمَّة في همومها وقضاياها في وادٍ آخر.
إنَّ الخطبة التي تؤثر في قلوب النَّاس وتغذِّي عقولهم ويشعرون بفائدتها هي مطلبهم من الخَطيب، فقد تطول أحياناً وقد تقصر، فإذا طالت ولم تلبّ حاجة قولبهم وعقولهم من التأثير والفائدة ذمّوها، وإذا قصرت ولم تشتمل على فوائد أعرضوا عنها.
بصائر: ما الرَّأي الرَّاجح الذي يلبّي حاجة النَّاس اليوم تطويل الخطبة أو تقصيرها ؟
إنَّ الخطبة التي تؤثر في قلوب النَّاس وتغذِّي عقولهم ويشعرون بفائدتها هي مطلبهم من الخَطيب، فقد تطول أحياناً وقد تقصر، فإذا طالت ولم تلبّ حاجة قولبهم وعقولهم من التأثير والفائدة ذمّوها، وإذا قصرت ولم تشتمل على فوائد أعرضوا عنها.
وعندما تكون وسطاً بين الطول والقصر؛ كثلث ساعة أو نصف ساعة، وانطوت على فوائد جمَّة ومنافع فكرية ولغوية وإلقاء مشوّق، كانت مطلب النّاس ومبتغاهم في الخطاب الديني المعاصر.
بصائر: بما أنَّكم تمارسون الخطابة لعشرات السنوات، ما الخطبة التي ينبغي أن يركِّز عليها الخطباء في هذه الأحوال التي تمرّ بالأمَّة الإسلامية؟
أمتنا اليوم تعاني من فرقة وتمزّق وضعف وصراعات فكرية وانهيارات أخلاقية وطغيان وشهوات وتساهل بمحارم الله وأمور الإسلام، فجدير بالخطيب أن يركِّز في خطبته الإسلامية على موضوع وحدة الصف واجتماع الكلمة والوعي الكامل لأمور الدين، والحفاظ على محارم الله والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واستقامة الأخلاق ونبذ الظلم وتجنّب الوقوع فريسة الشهوات والعصيان.
وبالجملة، هي الخطبة التي تلمس الواقع وتعالج هموم الأمَّة وتصنع الحلول النَّاجعة لأزمات عيشها ومشاكل عصرها.