مع نجاح الثورات الشعبية في بعض البلدان العربية التي يأتي على رأسها – حتَّى الأن – مصر وتونس، وترشح العديد من الدول العربية للحاق بقطار التَّحرّر من هيمنة النظم الديكتاتورية، بدأ يظهر في الأفق بوادر إنشاء أحزاب رسمية للحركات الإسلامية.
وقد تسبَّب إعلان الحركات الإسلامية عن إنشاء أحزاب سياسية تحمل الصّفة المدنية، وفي الوقت ذاته تتمسك بالمرجعية الإسلامية في خلق حالة جدلية روج لها مناهضي المنهاج الإسلامي في هذه البلدان, وهو ما يلزمنا بضرورة مناقشة هذه القضية الجدلية.
بداية، يجب تحديد مفهومين قبل مناقشة هذه القضية؛ أولهما "المرجعية" والأخرى هي "الدولة المدنية"، أمَّا المرجعية فهي الإطار النَّظري الذي يحكم سياق المواقف والرؤى؛ فالمرجعية الإسلامية تعني الإيمان بـ (القرآن والسنة) مرجعية لكلِّ التَّعاملات بل يذهب المستشار المصري طارق البشري إلى عدَّها "ضابط الانتماء للإسلام".
أمَّا الدولة المدنية فهي التي تطبق الديمقراطية، والأخيرة ليست كلمة عربية، بل هي منشقة من اليونانية، وهي مجموعة من كلمتين: الأولى: DEMOS (دي موس)، وتعني: عامة النَّاس، أو الشعب، والثانية: KRATIA (كراتيا)، وتعني: حكم، فيصبح معناها: حكم عامة الناس، أو: حكم الشعب بمعنى أنَّ الشعب مصدر السلطات، ويعرّفها البعض بأنَّها ليست بالدولة الدينية التي يحكمها ويديرها رجال الدِّين، كما أنَّها ليست بالدولة العسكرية التي يحكمها ويديرها العسكر.
الإسلام والدولة الدينية..
يتلخص الفرق بين الدولتين الدينية والمدنية ذات المرجعية الإسلامية في كون الدينية تعنى: دولة (كهنوتية) لها دين واحد فقط تسمح به وتمارس شعائره، ولا يوجد دين آخر في هذه الدولة مسموح له بممارسة الشعائر، وتتحكم في أهل الأرض باسم السَّماء، وتتحكَّم في دنيا الناس باسم الله، ولعلَّ أخطر ما في الدولة الدينية أنها تجعل الحاكم يتكلم باسم الله، ومن ثمَّ لا تجوز مراجعته ولا مساءلته، وبهذا تفتح هذه الدولة الباب واسعًا للاستبداد باسم الدين، وهو أسوأ أنواع الاستبداد.
ولم يعرف الإسلام يومًا الدولة الدينية التي اشتهرت بها أوروبا في عصورها الوسطى، والتي "يحتكر حكامها الحق" لأنَّهم يتكلمون باسم "الله"؛ حيث أشاع الإسلام بين أتباعه "ثقافة المساواة التامة والمواطنة الكاملة"، فلا تفاضل بين النَّاس إلاَّ بقدر كفاءتهم وأعمالهم الصَّالحة المفيدة للوطن والمواطنين (( يا أيها الناس ألا إنَّ ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى)).
ولقد ضمن الإسلام لجميع المواطنين "حق المعارضة" للحاكم إذا أخطأ، وأباح لهم "تصحيح" هذا الخطأ، وجعل الإسلام هذه المعارضة دليلاً على صحة وسلامة "الإيمان"، والتقصير فيها "مناقض" للإيمان ويستوجب "عقاب الله"، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنه أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم قال: ((الدِّين النصيحة" قلنا: لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم)). رواه مسلم.
فالأمَّة هي مصدر السلطات، وخيار الأمَّة، وبيعتها هي التي تمنح الحاكم حقه في السَّمع والطَّاعة، أي تمنحه السلطة، والسَّمع والطَّاعة للحاكم من منطلق ((إنما الطاعة في المعروف))..، رواه الشيخان وأحمد والنسائي وأبو داود: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))... رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصحَّحه السيوطي..
إذن العصمة في التصوّر الإسلامي، وقف على النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يبلغه عن ربّه تبارك وتعالى، ولم ينشئ في بنيانه أبداً ما يعرف بالمؤسسة الدينية، لا في صورة فرد، ولا طبقة، ولا مؤسسة: (كالبراهمة) مثلا عند الهنود، (والأحبار) عند اليهود، و(الإكليروس) عند النَّصارى، لأنَّ العلاقة بين (الرب) و(العبد) في الإسلام علاقة مفتوحة بلا وسطاء.
الدولة الإسلامية..
لقد أثبت التاريخ أنَّ هذه المقوّمات النظرية التي جاء بها الإسلام أقامت دولاً مدنية، وحضارة إنسانية إسلامية أضاءت عصوراً عديدة عرف فيها المسلمون دولة الحق والعدل والقانون، وعاش خلالها غير المسلمين يتمتعون بالمساواة في الحقوق والوجبات، وينعمون بحرية الاعتقاد.
الدولة الإسلامية هي الدولة (الحديثة) فهي ليست بالدولة (الثيوقراطية)، ولا هي بالدولة (العلمانية).. وهي دولة فكرة تقوم على نشرها.. كما هي دولة رعاية تحمي حقوق الفقراء، وتحفز المجتمع على القيام بواجباته جميعاً.
أو بالأحرى هي دولة دعوة أو دولة رسالة، وهذا هو التَّعبير الحقيقي لارتباطها بالعقيدة الإسلامية أو الترجمة العملية للوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية، وهى الدولة التي غالبية سكانها من المسلمين، وتقرّ باستمداد تشريعاتها من الشريعة الإسلامية.
ولعلَّ أهم ما يميز الدولة الإسلامية هو الأهداف العامة التي تتحمَّل هذه الدَّولة عبء القيام بها، والتي أوجزها المتقدّمون بقولهم: (القيام على أمر العباد بما يصلح معاشهم ومعادهم..)، فثنائية الاهتمام بالمعاش والمعاد هي أولى مميزات هذه الدولة، وبقدر ما تقوم أجهزة الدولة بالوظائف التي يحدِّدها لها الإسلام، ويتم في إطارها تنفيذ أحكامه، وتبليغ دعوته، ومراعاة شرائعه، بقدر ما تقترب من وصف الدولة الإسلامية أو تبتعد عنه.
وعندما تحقّق الدولة الإسلامية وظائفها الأساسية، فإنَّها بذلك تقدم المثال لبقية دول العالم ولكل الإنسانية حول التجسيد الحقيقي للمبادئ والقيم الإسلامية كالعدل والحرية والمساواة والشورى وحقوق الإنسان وحفظ كرامته بما يحولها إلى نموذج يحتذى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، (آل عمران: 110).
الدولة ذات المرجعية..
ومن مظاهر النظم الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية التي يمارس فيها الشعب مظاهر السيادة بواسطة برلمان منتخب:
1- أن يقوم عددٌ من أفراد الشعب بوضع مشروع للقانون مجملاً أو مفصَّلاً، ثمَّ يناقشه المجلس النيابي بحيث لا يخالف الشريعة الإسلامية؛ إذ إن مرجعية الدولة ومصدر دستورها الذي تشتق منه الأحكام هو الإسلام، ويصوِّت عليه، وليس لرئيسها التعديل فيه إلاَّ عن طريق أفراد شعبه، فما هو إلاَّ أجيرٌ عندهم، كما كان هدي الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وسنّ قوانين في الأمور المستحدثة، أو النازلة، وفي الشؤون التي لا يفصل فيها نص من القرآن أو السنَّة.
2- حق الاستفتاء الشعبي: بأن يُعرض القانون بعد إقرار البرلمان إيَّاه على الشعب؛ ليقول كلمته فيه لتكون مجمعة عليه أيضًا ومسؤولة عنه.
3- حقُّ الاعتراض الشعبي: وهو حقّ لعددٍ من الناخبين يحدده الدستور للاعتراض فيه.
4- حقُّ اختيار مجلس شعبي كنوابٍ للشعب بعيد عن أي تزوير يتكون من أناسٍ على درجةٍ من والعلم والفهم والوعي والأخلاق.
5- حقُّ اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكلِّ حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمَّة يقوم على مبدأ الشورى ووفق القوانين التي اختارها شعبه ولها محاسبته إن أخطأ؛ بمعنى الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرّد فرد عادي من النَّاس، ليس له عصمة ولا قداسة، وكما قال الخليفة الأوَّل: (إني وليتُ عليكم ولستُ بخيركم"، وكما قال عمر بن عبد العزيز: "إنما أنا واحدٌ منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملاً).
6- يجب على الأمَّة الالتزام بدستورها وعدم الخروج على حاكمها، وما دام دستورها موافقاً لشريعتها الإسلامية وأقرَّته الأمَّة فوجب عليها الاتِّباع، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: ((السَّمع والطَّاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النّساء للنّبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قيَّد ذلك بقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، (الممتحنة:12).
الجزية ..
لعل قضية الجزية تعدل أبرز النقاط الجدلية التي تستغل في توسيع الهوة بين أي حكم إسلامي وبين غير المسلمين في ذات الوطن , وكثيراً ما تثار هذه القضية للتخويف من حكم الإسلاميين حيث الادعاء بان الإسلاميين إذا وصلوا للحكم سيفرضون الجزية على أبناء الديانات الأخرى , و يثير المبشرون والمستشرقون قضية الجزية التي غُلِّفت بتفسيرات سوداء، جعلت أهل الذمة يفزعون من مجرد ذكر اسمها، فهي في نظرهم ضريبة ذل وهوان، وعقوبة فُرِضت عليهم مقابل الامتناع عن الإسلام.
ويشير الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي للمسلمين إلى أن الجزية على الذميين هي بدل عن فريضتين فُرِضتا على المسلمين وهما: فريضة الجهاد وفريضة الزكاة، ونظرًا للطبيعة الدينية لهاتين الفريضتين لم يُلزم بهما غير المسلمين , على أنه في حالة اشتراك الذميين في الخدمة العسكرية والدفاع عن الحَوْزَة مع المسلمين فإن الجزية تسقط عنهم.
وأستشهد القرضاوي بما كتبه المؤرخ سير توماس و. أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" عن الغرض من فرض الجزية وعلى مَن فُرضت. قال: (الدعوة إلى الإسلام ص 79-81 ط. ثالثة ـ مكتبة النهضة ـ ترجمة الدكاترة : حسن إبراهيم حسن، وإسماعيل النحراوي، وعبد المجيد عابدين). "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين ـ كما يريدنا بعض الباحثين على الظن ـ لونًا من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش، في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين.
ويضيف القرضاوي ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط، من تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر. لما حشد الإمبراطور هرقل جيشًا ضخمًا لصد قوات المسلمين المحتلة، كان لزامًا على المسلمين ـ نتيجة لما حدث ـ أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم برد ما جُبىِ من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: "إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنّا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين، وقالوا: "ردكم الله علينا، ونصركم عليهم (أي على الروم).. فلو كانوا هم، لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي لنا".