استكتبتني إحدى المربيات طالبة منِّي أن أكتب مقالاً في متطلبات اختيار شريك الحياة بعنوان: خطبتنا وزواجنا غير، أي (مختلفة) لأنّنا غير، أي (متميزون) بمعنى أنَّ الإنسان صاحب الخلق والدين لديه مقاييس مختلفة سواء أكان ذكرا أو أنثى، ويبحث عن صفات ومؤهلات أرقى وأدوم أثراً وأطيب للعيش والاستقرار على عكس عامَّة النَّاس الذين يكتفون بالمظهر الخارجي كأساس للاختيار!
أردت أن ألبي طلب أختي التي تذكرت خطبتها نفسها، والتي أوَّل ما جلست مع زوج المستقبل لوحدهما طلبت منه أن يتلو عليها من آي القرآن من باب الاستبشار بالبداية الصَّالحة التي تنسحب على ما بعدها، لأنَّ ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل، هذه البداية المشرقة والرَّمزية تجلت عن زوجة صابرت مع زوجها في أشدّ أحوال الغربة، وعن زوج خرج من بيته أستاذة جامعية في علم الإدارة ومؤلفة كتب وداعية.
أسوق هذه القصة من زمن المثاليات التي أذكر منها أنَّ الفتاة كانت إذا سألت عن مواصفات شريك المستقبل أجابت: أريده متديّنا وحسب، وفي طيّ هذه الكلمة وفي صفات هذا المتدين كانت تندرج كل محاسن الخلق الطيب والمودة الرومانسية والرحمة الإنسانية وسعة الصدر والأفق، باختصار إذا كان في الدنيا كمال لشخص، كان في أحلامنا سابقاً أنَّ المتديّن هو ذلك الرَّجل الكامل!
كانت اعتبارات المال والجاه وحتى الكفاءة الاجتماعية التي عرفناها لاحقاً لا تساوي شيئاً مقابل شهادة حسن السير والسّلوك الملخصة في كلمة: متدين!
كان الفتاة تتخلَّى عن الكثير وتشتري ذلك التدين وتتاجر به كأساس للحياة ما بعده يهون ويأتي مع الزَّمن، كانت ترضى أن تترك رغد العيش في بيت أهلها وتستبدله بشظف العيش مع ذلك المتدين مستبشرة بذلك التدين الذي سيجعل من الخبز والبصلة مأدبة عامرة، ومن قبلها مستبشرة بالله الذي يرزق الطييِّبين والطيِّيبات، كان العرس في بيت الأهل وكانت أناشيد الحفل ثورية وتراثية وكانت الزفة بلا ضجة ولا أضواء ولا ورود بمئات الدنانير تزين سيارة العروس الفارهة المستأجرة التي تذبل في اليوم التالي.
كان ذلك الزَّوج المتدين يحسن فنَّ التعامل ويراعي الخوف والارتباك ويأخذ بالسنّة في التمهل والتؤدة والرِّفق فأصبح كالسيل الجارف الذي منع نفسه سنوات، ثم انهال جارفاً لا يراعي صغير النبات ولا براعم الزهور! وبعضهم من الغلظة بمكان، فيبرر قسوته بأن هذا حلاله! وحتَّى في فترة الخطبة لا يراعي البعض الآداب وأنَّ هذا وعد بالزَّواج وليس دخولاً وفي عصرنا كثيراً ما ينتهي بالطَّلاق قبل الدخول، ولهذا يشدّد الدكتور صلاح الخالدي أستاذ الشريعة على هذه الخطبة ويعدُّها مرحلة خطرة تحتاج إلى حدود ومراقبة مخافة أن يحصل ما لا يحمد عقباه مع غياب الوعي والاندفاع وعدم تقدير الحرمات.
لقد كان جابر بن عبد الله صحابياً مجاهداً وابن شهيد ومن الأوائل والمقرَّبين، أي متدينا بوصف أيامنا، ولكنَّه كان بحاجة أن يتعلَّم فنون الحياة الزوجية من الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الذي عندما عاد من غزاته تأخر ليحادثه عن حياته الزوجية وأخّر الجيش كله وأرسل رسولا إلى المدينة حتَّى يخبر النساء بعودة أزواجهن وقال: ((أمهلوا حتى ندخل ليلا كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة)).
علم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّك قد تكون من المقرَّبين والمصلّين، ولكنَّك تجهل بفنون القلوب فعلمه وعلم المسلمين من بعده، وسيّدنا ابن عبَّاس يعرف حديث فضل الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبرّه، ولكنَّه في مقام الزوجية نصح بزينة الرّجل وتطيبه لزوجته.
قبلا كان هناك ثقة بكلام ذلك المتدين الذي كان يملأ عالم المخطوبة بالأحلام الوردية لما ستكون عليهما حياتهما فيما بعد، كان هناك حب ومشاعر وتآلف وقبلهما كان هناك صدق وتعاهد بأمر الدين والدنيا، وبقي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك الزَّوج والأخ والأب الحاني الذي تحتمي به السيِّدة عائشة، وقد أغضبته، من غضب أبيها الذي جاء بينهما وسيطاً فأخذ جانب الرَّسول وضرب ابنته، فقال له الرسول المشفق: ما لهذا أتينا بك يا أباها!
كان ما بعد في بيت محمَّد الزَّوج صلَّى الله عليه وسلَّم أجمل ممَّا سبق في بيت الأب أبي بكر، وبقي ذلك التَّصريح المدوي يدمي قلوب نساء اليوم لاختلاف أحوال الأزواج ((إنّي أحب هواك وأحب قربك)).
وهي زوجة كانت تحلف برب إبراهيم عندما تغضب من زوجها خاتم النبيين وتهجره اليوم إلى الليلة وتكسر الصحون في وجهه غيرة عليه ويعفو هو عن ذلك ويصفح بأحسن ما يكون خلق الأزواج.
كانت ذمم الناس يومها صادقة صافية وباطنهم خير كظاهرهم، وكان الزّواج شرطه الاستمرارية والديمومة وما غير ذلك حلال بغيض لا يلجأ إليه إلاَّ في أضيق الأحوال.
لم يكن الرّجال دعاة خارج بيوتهم، فإذا دخلوها خلعوا لباس ما كانوا ينصحون به النَّاس، فلا يحسنون إلى زوج ولا يرأفون بولد وبيوتهم ليست أكثر من مكان للراحة وقضاء الحاجات.
قد يقول قائل: وماذا عن المرأة المتدينة، أليس يتبين منها ما قد يتبين من الرجل؟
ونقول: بلى، ولكن كما أنَّ الكلمة الطيّبة تُخرج الحيَّة من جحرها فكذلك المعاملة الطيّبة والرّفق تجعل أعتى النساء وأغلظهن خاتما في يد زوجا برضاها تحب ما يحب وتكره ما يكره لا فرق في ذلك بين متعلمة وأميّة، فما من امرأة مهما بلغت في منازل الدنيا إلاَّ وتحب أن تسمع كلمة طيبة في أذنها وتستند على ظهر يدعمها ويحميها، وتقرّ عينيها بأولاد يملؤون حياتها ومن تقول بغير ذلك، فإنَّما تتنكر للفطرة قبل الدين.
أريده متدينا.. هل أصبحت تكفي وحدها؟ وماذا تعني في دنيا اليوم؟ وكم من المتدينين يسيئون لألقابهم؟
يحكى أنَّ رياحا القيسي من التابعين تزوَّج امرأة فبنى بها، فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته: قم يا رياح، فقال: أقوم، ولم يقم، فقامت الرّبع الثاني ثم نادته وقالت: قم يا رياح، فقال: أقوم، ولم يقم، فقامت الربع الثالث، ثم نادته قم يا رياح، فقال: أقوم، ولم يقم، فقالت: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرَّني بك يا رياح؟ وقامت الرّبع الباقي.
فكم امرأة في زماننا تقول: من غرَّني بك يا هذا في أمور الدنيا والآخرة؟؟!!
ولكن من قال: هلك الناس فقد أهلكهم، والخير باق في أمَّة محمَّد إلى يوم الدين، وإذا لم نبق نتاجر بالدين وهو الباقي، فهل نتاجر بالزائل من مال وجاه وعرض دنيا؟! وإذا ابتلينا هل نفقد الإيمان بالمبدأ؟ أم إنَ المبدأ أصيل ثابت حتى وإن أخطأ الأشخاص بتطبيقه؟
أيتها النساء لا تفقدن الأمل وابحثن عن المتدين البارحة واليوم وغداً، ولكن مع شرط الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم الآخر، الخُلُق، فالأولى لا تكتمل إلاَّ بالثانية، وإذا توفر الشرطان، فعندئذ يبقى موسى الذي تقدّم للزّواج هو موسى الذي أصبح نبيّا فيما بعد، وزاد فضلاً على فضل، وحُسن خُلقه في المقدّمات تعاظم حتى بلغ النبوّة في النِّهايات.
أمثال هؤلاء المتدينين يستحقون التضحية ولو بمال قارون، ولكن أي الرجال مثل هؤلاء؟ وهل ما زال الزَّمان يجود بأمثالهم؟ وهل ما زالت مثاليات صديقتي "خطبتنا وزواجنا غير (مختلفة) لأنَّنا غير (متميّزون)" قابلة للتَّطبيق؟!