وليتنا هنا نتعلَّم هذا الدَّرس العظيم من مخلوق صغير، هو في حدِّ ذاته آية من آيات الله عزَّ وجل في الصبر والتجلُّد والجدية وقوة العزيمة؛ إنَّها النملة.
النَّملة العجيبة
وقد ذكر المؤرخون هذه القصة العجيبة عن القائد (تيمور لنك)، (دخل هذا القائد المشهور معركة من المعارك هو وجنوده، ومع بداية المعركة هُزِم جيشه وتفرق عنه، فما كان من "تيمور لنك" إلا أن هام على وجهه حزينًا كسيرًا كئيبًا لهذه الهزيمة المنكرة، ولكنَّه لم يرجع إلى بلده، بل ذهب إلى مغارة في إحدى الجبال، وجلس فيها يتأمل حاله التي وصل إليها، وجيشه الذي تفرق عنه.
وبينما هو مستغرق في تفكيره، إذ رأى نملة تريد أن تصعد على حجرة ملساء فتسقط، لكنَّها تنطلق محاولة للمرَّة الثانية وتسقط، وتحاول الثالثة وتسقط، فالرَّابعة، وهكذا، فشدَّته وانقطع تفكيره، وبدأ بالتركيز مع النملة، يعُدُّ محاولاتها للصعود، حتى وصلت إلى ست عشرة مرَّة تصعد وتسقط، وتبادر بالصُّعود من جديد، وفي المحاولة السابعة عشرة نجحت النملة في الصعود.
فقال: عجيب هذا الأمر، نملة تكرّر المحاولة سبع عشرة مرَّة، ولا تيأس حتَّى تنجح، وأنَّا لأول مرَّة أنهزم أنا وجيشي، فأصاب باليأس والإحباط! فنزل من المغارة وقد صمَّم على أن يجمع فُلول جيشه، وأن يدخل المعركة مرَّة أخرى، وألَّا ينهزم ما دام حيًّا، وكلّ هذا وصورة النملة لا تفارق مخيلته وتعيش في رأسه.
فجمع جنوده، وتعاهدوا على الثبات والصبر في المعركة، وألَّا ينهزموا أبدًا ما داموا أحياء، فدخلوا المعركة بهذه النيّة وهذا التوجه والتصميم فانتصروا)، [من محاضرة للدكتور ناصر العمر، بعنوان: النملة، نقلًا عن صناعة الهدف، هشام مصطفى عبد العزيز وآخرون، ص(61)].
وماذا بعد؟
ـ ليكن شعارك هذا الأسبوع أيتها الغالية، (الانطلاق نحو القمَّة)، وهذه بعض الأشياء التي تعينك على أن تكوني من أصحاب الهمم العالية:
1- المجاهدة: قال الإمام ابن قيِّم رحمه الله: (أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك، فقال: إن هذا لا يحل لك؛ فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك)، [روضة المحبين، ابن القيم، ص(70)]، فهذا رغم مرضه؛ يجاهد ليقرأ، ويزداد علمًا.
2- الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى: فهو المسؤول سبحانه أن يقوِّي إرادتنا، ويعلي همَّتنا، ويرفع درجاتنا.
3- قراءة سير سلف الأمة: أهل الاجتهاد والهمَّة العالية، الذين صان الله بهم الدِّين؛ فكم من إنسان قرأ سيرة صالح مجاهد؛ فتغيَّرت حياته إثر ذلك تغيّرًا كليًّا، وصلح أمره وحسن حاله.
قال علي بن الحسن بن شقيق: (قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد؛ فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته، فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح)، [سير أعلام النبلاء، الذهبي، (8/404)].
4- مصاحبة صاحب الهمَّة العالية: وهذا من أعظم البواعث على علو الهمَّة؛ إذ كلُّ قرين بالمقارن يقتدي، لأنَّ البشر قد جُبلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضًا، وحب المجاراة في طبائع البشـر أمر لا ينكر.
5- مراجعة جدول الأعمال اليومي ومراعاة الأولويات والأهم فالمهم: وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة، وكلَّما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرَّتابة والملل كان أجدى في معالجة الهمة.
6- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه الهبوط بالهمَّة وتضييعها: وبخاصة الكسل والفتور، فلابدَّ للمرء من البعد عن الكسل؛ لأنَّه قاتل للهمة مذهب لها، وخاصة عند تقدّم العمر وعجز الجسم، (فهذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله كان يصلِّي النوافل من قيام مع كبر سنه، وبلوغه مئة سنة أو أكثر، وهو يميل يمينًا وشمالًا لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل له في ذلك فقال: يا ولدي، النفس من شأنها الكسل، وأخاف أن تغلبني، وأختم عمري بذلك)، [الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، نجم الدين الغزي، (1/202)].
للاستزادة:
• مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية.
• الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، نجم الدين الغزي.
• روضة المحبّين، ابن قيم الجوزية.