رفض الآخر وعدم القبول به وإقصائه من ممارسة حقوقه.. كان ذلك ينطبق على مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، فإقصاء النّظام الحاكم في البلاد لجميع خصومه السياسيين كان سبب انهياره، فسياسة الحزب الواحد سياسة فاشلة لم تلجب على البلاد إلاَّ الخراب والاستبداد، ولذلك كان من أهم المنجزات التي تعلمها المصريون أثناء الثورة هو القبول بالآخر، وإن اختلف كلية معه، فالخلاف وارد، ولكنَّه لا يفسد لهم قضية، ومن حق الجميع العمل دون عوائق.
في ميدان التَّحرير تجد الإسلاميين وغيرهم من الأحزاب المختلفة، تجد اليمين واليسار، تجد الشباب والكبار، تجد النِّساء والأطفال، تجد شتى أنواع الفكر والثقافة دونماً إقصاء لطرف دون آخر، فالجميع يعمل في بوتقة واحدة للدفاع عن هدف واحد وهو الحرية والعدالة.
تشويه متعمد
كان مشهد المنتديات الثقافية التي عجّ بها ميدان التَّحرير طيلة الـ 18 يوماً مشهداً مثيراً، فالكل يتحدّث طبقاً لأفكاره وتصوّراته، والجميع يسمع، وإذا انتهى الليبرالي من حديثه يتحدّث الإسلامي، وتغيرت حقيقة المفاهيم لدى البعض، والتي استطاع النظام البائد أن يشوّه صورة الجميع بشكل متعمّد، فكل طيف سياسي يكره نظيره وجميع أفكاره، وهو ما تغير كثيراً في الميدان، حتى أن أعتى اليساريين، يرتقي المنصة ليقول: "إنَّ الإسلاميين هم أشرف شرفاء هذا الوطن".
منصة الإذاعة الداخلية للميدان، والتي كوَّنها شباب ينتمون للإسلاميين، لم يرفضوا الآخر ولم يستأثروا بها، بل جعلوها مسرحاً لكافة الأفكار والكلمات لمختلف أطياف الوطن، فلم يتفرّد أحد بالقرار، ولم يعمل أحد على إبراز وجهة نظره فقط وإقصاء وجهات النظر الأخرى، فالجميع يعلم أنَّ بداية التعصب والفشل والاستبداد تأتي من إقصاء الآخر، وأنَّ قبول الآخر هو الضمانة الوحيدة لمناخ صحي يعمل فيه الجميع بشفافية كاملة، وهي ما يضمن الاستقرار والنَّجاح للبلاد.
منهج إسلامي
وقبول الآخر منهج إسلامي أصيل، فلقد برهن الإسلام بما يكفي عن قبوله بالآخر وقبول الاختلاف معه، ويؤسِّس الإسلام لقبول الآخر تأسيساً عملياً وواقعياً عندما يرفض كل أشكال العنصرية تجاهه، كما أنَّه يرفض تصنيف الآخر بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو غيرها من المميّزات غير الاختيارية، وبالتالي لا يمكن أن ينشأ في ظل التصوّر الإسلامي موقف يرفض الآخر.
وعلاقة المسلمين بغيرهم علاقة تعارف وتفاهم وتعاون وبر وعدل، عندما يقول الله سبحانه وتعالى، في التعارف المفضي إلى التعاون: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، [الحجرات:13]، وكفل الإسلام الحرية الدينية لغير المسلمين، وعدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}،[البقرة:256]، فهذا في أمور العقيدة والإيمان والكفر، فما بالنا بسماحة الإسلام في قبول الآخر إذا كان مسلماً ولكنه يملك أفكاراً مختلفة.
والاسلام جعل العنصر البشري واحداً، فالنَّاس في ظل النظام الإسلامي وحدة متماسكة مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم أصلهم واحد، كما ورد في الحديث النبوي الصحيح: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن))، سنن أبي داود، يلتقون على أرضية مساواة النَّفس الواحدة، تذوب فيها فوارق الحدود الجغرافية والقوميات والأجناس والنَّعرات، كما في الآية (1) من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}، والآية (22) من سورة الروم: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}.