إنّ أصحاب الأقدام الراسخة في الفقه وأصوله ومن أردفوا ذلك بعملٍ دعويٍّ سيجدوا في الحديثِ عن أولوياتِ الحراكِ الدعويِّ والخطة الدعوية كلاماً سائغاً إن لم يكن واجباً، ولمَ لا!! وقد راوحوا عُمْراً بين الضرورات والمحظورات ومقاصدِ الشريعةِ وفقهِ الموازناتِ وغيرها، ثم هم نَهلوا من أصدقِ نَبْع وأرواه حيث سيرةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ تَبِعَهُ مِنْ أهلِ الإحسان سَلَفِهم وخَلَفِهم، وعلموا أنّ فقهَ الأولويّات هو (وَضْع كلّ شيءٍ في مرتبتهِ، فلا يُؤخَّرُ ما حقّه التقديم، أو يقدَّم ما حقّه التأخير، ولا يُصغّر الأمر الكبير، ولا يُكبّر الأمر الصغير )1.
والمُتَتَبِعُ للمَنْهجِ النبوي مِن مُبتَدَئِه إلى مُنتهاه يجد أنّ في بعثته ودعوته –كما عند سائر المُرسلين- أهدافاً عامّةً لا تتبدلُ أو تتغير، لكنّ التبديلَ والتقديمَ والتأخير يَطْرأُ على وسائلِ التبليغِ حيناً، وعلى أهدافِ المرحلةِ حيناً آخرَ، دون أيّ تجاوزٍ لخطّ الدعوة العام وأهدافها الكُبرى.
الأولويّات.. بمقاصدها
فِقْهُ الأولويّات، مبثوثةٌ أخبارُه في غيرِ مكانٍ من كتابِ الله وسنةِ الرسول الكريم عليه السلام؛ ففي القرآن الكريم يُوازَنُ بين سقايةِ الحاجّ وعمارةِ المسجد الحرامِ من جهةٍ وبين الجهاد في سبيل الله من جهةٍ أُخرى، لترجحَ تلكَ الثانية وتُعطَى الأولويّةَ بالاهتمام {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة19]. وفي الحديث "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله. وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان" [رواه مسلم]، وهو بذا يُفاضل عليه السلام بين الأعمال ويُعطيها أولويّةً بعضها دونَ بعض. والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ بـ (أيّ العملِ أفضل) وإنّكَ لتعجَبُ من إجابات الرسول صلّى الله عليه وسلمَ التي تختلفُ من سائلٍ لآخرَ، في دراسةٍ نفسيّةٍ للأولويّة التي تُصلحُ السائلَ وترفعُ منزلته، وترقى بها من الحَسنِ إلى الأحسن.
إنّكَ لو رجعتَ إلى كُتبِ الأصول لوجدتَ هذا الفقهَ ذو علاقةٍ وثيقةٍ بأنواعٍ أُخر؛ كفقهِ المصالحِ والمفاسد وفقه الموازنات وإنكار المُنكر ليكون ضمنَ نَظْمٍ واحدٍ يدور كلّه حول مقاصدِ الشريعةِ من ضروريّات وحاجيّات وتحسينات، وعلى هذه المقاصد يبني العاملون أحكامهم تقديماً وتأخيراً، أولويّةً وثانويةً. فلا يُعقل أن توزنَ الضرورةُ بالحاجة أو توزَنَ بغيرها من أمورٍ تحسينية. بل إنّ الحاجات بذاتها وكذا الضرورات والتحسينات لا تعدّ واحدةً في قيمتها واهمّيتها.
وهذا كلّه يؤكدُ رسوخَ هذا الفقهِ وأصالتهِ في منهجِ الدعوةِ، ثُمّ ما أكّدتْ عليه الدراساتُ العلميّةُ من بعدُ أنّ واحداً من أسرارِ نجاحِ الإنسان في تحقيقِ أهدافهِ هو حُسنُ تقسيمِ الأولويّاتِ المنوطةِ بهِ، والقدرةِ على إدارتها، وإعطائها قيمتها ووزنها.
حُداءٌ من الحديبية
إنك لتعجبُ من قومٍ قرأوا سيرةَ الحبيبِ المصطفى عليه الصلاة والسلام عندَ صُلح الحديبية ثم هم ينكِصون عن فهمِ أولوياتِ العمل ومراتبه!! وللحقّ، فقد كانت هذه الحادثةُ من تاريخ الرعيلِ الأولِ هِزّةً مُدويةً كدويّ العبرةِ التي من بعدها، لتكون حُداءً لدارسي فقه الأولويّات في كُلّ عَصرٍ.
والمُقيّمُ يجدُ أنْ لا عيبَ في اختلالِ الرُؤى وضياعِ البُوصلة حيناً، كما كانَ من أمرِ الفاروقِ رضي الله عنه، لكنْ في المقابلِ كان الصّديقُ حاضراً في المشهدِ يحدوه فهمٌ عميقٌ، وثقةٌ لا يُدانيها شكٌّ بقيادة النبي عليه السلام وإدراكِه لأولويّةِ التبليغِ وقتئذٍ على أولويّة أداءِ عُمرَة. فكان دخولُ الدينِ إلى كلِّ قبيلةٍ وطَرْقِه قلوبَ الناسِ أولى من دخولِ البيت الحرام، والالتزام ببابهِ، ولو بعد لوعة!!
وأيُّ قيادةٍ اليومَ عصمَها اللهُ عن الزللِ والتخليط، وسوءِ التقديرِ في أحيانٍ كثيرةٍ؟؟!!
لذا كان الدرسُ عظيماً -بعظمةِ تلك القيادةِ- أن النبي عليه السلامُ وهو المُؤيدُ بالوحي بدأَ يُراجعُ المؤمنين توثيقاً لمتانةِ موقفهِ ورؤاه "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" [رواه البخاري]، ويخبرُ النبي الكريمُ عمرَ "فإنك آتيه ومطوف به" [رواه البخاري]، ولتُبدي الأيام بعدئذٍ أولويّة التبليغِ الراجحة، فيعتذرُ عمرُ الفاروقُ ويُخطِّئ نفسه ويقول: (فعملتُ لذلك أعمالاً) [رواه البخاري]، من شدّة ما راجع وأثقل على قيادته، في سيماءٍ بيّنةٍ لوَرَعِ المؤمنين وصِدْقهم.
ولتَعذُرِ القيادةُ اليومَ أفراداً ليسَ من بينهم عُمَرُ، شقّ عليهم تلمّسِ أولويةِ العمل من ثقةٍ كأبي بكر، فلم يجدوا بُدّاً من مراجعة قياداتهم في محاولةٍ لفهمِ أولويةِ المرحلةِ ضمن الأُطُرِ المرضيّةِ ودون خُروجٍ عن النسقِ العام، أو التحدي المبتذلِ لقيادةِ الدعوة؛ وإنما تنمو الرُؤى وتُوقظ الأفكارُ بحريّةِ القولِ والتدريبِ على النقدِ.
وليكُن في القائدِ القدوةِ -رسول الهُدى صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنةُ إذْ بَيّنَ وأفصحَ دون تبرّمٍ للجُند والأتباع، وقبل هذا أطلعَ المجتمعَ الدعويّ كلّه على خطواتِ التخطيطِ لهذه الأولويّة ليكونوا شركاءَ العملِ والتخطيطِ معاً.
الصفّ.. الأولويّة الأولى
لمّا سار النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش يومَ أُحدٍ، تخاذلُ ثُلثُ الجيش وتفرّق من حولهِ في معاداةٍ صريحةٍ من المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبي سلول لمعسكرِ الإيمان وجُنده. ثم انجلى الغبار يومئذٍ بهزيمة المؤمنين. وقد يظنّ ظانٌّ بمقياسٍ آنيّ أنّ الأولوية بعدها ستكون بمعاقبةِ من تراجع وانسحب -إضعافاً للمؤمنين وتوهيناً لقواهم-، ليأتي ردّ النبي صلى الله عليه وسلّم عمليّاً هذه المرةَ، فلم يلتفت للأمر برُمّته، ولم يكن شغلَ المجتمعِ الشاغل، فكل أمرٍ يُنزلُ منزِلَته. فكانت أولويّة المجتمع الأولى الانشغال ببناء صفٍّ أكثر تراصٍّ من ذي قبل؛ ليبين الناس ويتمايزوا. غَثِّهم وسمينهم!!
وهوَ عينُ الدرسِ يُعلّمهُ النبيُ صلى الله عليه وسلم أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطاب بعد أن تطاول ابن سلولٍ –رأس النفاق- على شخصِ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقين8]، فطلب منه الإذْنَ بقتلهِ، ليقول عليه الصلاة والسلام: "لا يتحدثُ الناسُ أن محمداً يقتل أصحابه" [رواه البخاري]، حفاظاً على متانةِ الصفّ أولاً، ثمّ إبقاءً على وضاءة صورة المؤمنين بعد ذلك.
لكنّ هذا لا ينفي مُصارحةً تحتاجها الدعوةُ بين فينةٍ وأخرى وإنْ ظنّ البعضُ فيها تفتيتاً للصفّ أو إضاعةً للجُهد، فلا بدّ أن يكونَ نفيُ الخَبَثِ واحداً من أولويّات العمل الدعوي لتدورَ عجلةُ البناء. وارجع إذا شئت لتبوكَ وما بعدها واقرأ في التوبة لتُنبأَ الخَبَر، يُروى عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: (التوبة هي الفاضحة، ما زالت تُنزِل، ومنهم ومنهم، حتى ظنوا –أي المنافقون- أنها لن تُبقي أحداً منهم إلا ذُكر فيها) [رواه البخاري]، في وصفٍ للمنافقين في الصفّ؛ إجلاءً لقُبحِ صنيعهم، وتكبيتاً لهم من بَعدُ.
الأولويات.. تصنعُ التاريخ
ولَمْ تمضِ إلاّ سنواتٌ، لتَشهدَ الأيّام بأن فقهَ الأولويات ورجالهُ هم الذين يصنعونَ الفارق في تاريخ الأمة، فعليّ بن أبي طالبَ رضي الله عنه قدّم استقرار المجتمع المؤمن على القصاصِ من قَتَلةِ عثمان رضي الله عنه، وهو في كل حينٍ كان يشنّعُ عليهم ويدعو عليهم أن قاتَلَ اللهُ قتلةَ عثمان، وليشهدَ النبي صلى الله عليه وسلّم مِنْ قَبْلُ برسوخِ تلك الأولويّة في هذا المُنعطَف من تاريخ الأمة أنّ عليّاً كان على الحق.
ثم تأتي الأحاديثُ بعدئذٍ في بيانِ مرتبةِ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما؛ سِبط رسول الله بـ"إن ابني هذا سيد، وإني لأرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتي" [رواه أبو داوود]، لتَبْينَ الأولويّة الجديدةُ في اجتماع الأمةِ على إمامٍ واحدٍ. ثمّ لتظهرَ من بعدُ أولويّةٌ جديدةٌ عند أخيه الحسين وهيَ أنْ تكونَ الشورى الحَكَم بين الرعيّة والراعي، وليقاتل دُونها رضي الله عنه.
وكذا كان الحال في جيلِ فتحِ بيت المقدس، فقد كانت أولويّةَ عماد الدين ونور الدين رحمهما الله بثّ العلمِ والعلماء بين الناس، والنهوضِ بالأمة من الانتكاسةِ ببُعدها عن دين الله. ثم جاء الملكُ الناصر رحمه الله لتتبدّل الأولويّة بعد أن استقرّ العلم وليسعى إلى توحيد الشام بمصرَ، بعد أن طهّرها من الفاطميينَ ولينقضّ بعد ذلك على الصليبين مُحرّرا بيت المقدس من رجسهم.
وبمثل هذا فَهِمَ دُعاةُ الأمةِ عبر تاريخها أنّ بناءَ الجسمِ الدعويّ في مرحلةٍ ما يُعدّ أولويةَ العمل، ثم لا تلبث أن تتبدّل هذه الأولوية بعدَ حينٍ لتكون مزاوجةً بين البناء الداخلي والانتشار الخارجي في مراوحةٍ بين الفهم والعمل معاً. والوعاةُ هم الذين يُقيّمون كلا السبيلين ويقدّمون واحدةً على أختها. وكم أُصيبت الدعوات اليوم فأُبطئت خُطاها، وضُيّعت أوقات العمل والكدّ فيها، وأثقلت كواهلها من اندفاعٍ غير مدروسٍ لأولويّات مفضولةٍ في العمل، وقَلبّ صفحات الأمس القريب تجدْ أعوادَ المشانق شاهدة!!
لُبٌّ.. وقُشُور
كم مُؤلمٌ أن تجدَ من الدعاة من يكون منتهى هَمِّ أحدهم في تفصيلاتٍ فقهيةٍ‘ ستجدُ لمن يخالفها ألفَ مسوّغ فقهيٍّ لا يقلّ واحدها قوةً وإقناعاً عما يدافع عنه أولئك النفر، ولكنّه (عَشَى الأولويّات) أولاً، وثانياً، وعاشراً!!
اسمع ابن المبارك وقد خَرجَ مُرابطاً إلى الشام، فلمّا نظرَ إلى ما فيه القومُ من التعبّدِ والغزو والسرايا كلّ يوم، قال: (إنّا لله وإنا إليهِ راجعونَ على أعمارٍ أفنيناها وليالٍ وأيامٍ قطعناها في علمِ الخَليّة والبَرِيّة، وتركنا هاهنا أبوابَ الجنّةِ مفتوحةً)، فالحذَر الحذر من أن تضيعَ الأعمار في المفضولات على حسابِ الفاضلات من الأعمال.
دُعاةُ هذا الفهمِ السقيمِ هُم وَرَثَةُ جدٍّ لهم جاءَ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما وسأله عن دمِ البعوض –يعني ديّتها-، فقال: (ممن أنت)؟ فقال: من أهل العراق، قال: (انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا") [رواه البخاري]. فهُمْ لم يلتفتوا ولم تَطْرِف جفونهم للحسين عليه السلام وقد سال دمه الوضيء وثلةٍ ممن معه على أرض الكوفة أو قريباً منها، على مسمعٍ ومرآى منهم !! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج46]!!
ليس في الدينِ قشورٌ ولبٌّ، ولا أحبُّ هذا التصنيف، ولكنّي لا أعيبُ على من يلجأُ له وقد ألتمسُ له مَخرجاً أو أجدُ له تأويلَ عدةٍ لا أجد مثلَها أو مِعْشارها لمن يتمسّك بقولِهِ إنَّ الدينَ كلّه لبٌ؛ ثم هو يساوي بين إسبالِ الإزارِ وتحكيمِ شرعِ الله، أو يجدْ في إعفاءِ اللحيةِ أولويةً توازي الأخْذَ على يدِ الظالمِ أو تفوقها.
وفي صفّنا كهؤلاء وإنْ بثوبٍ آخرَ أقلُّ فداحةً، لكنّها المدرسةُ ذاتها لا تُرهق أتباعها النظر إلى مآلاتِ الأمورِ، وكأنّ الحديثَ عن تدرّج الأحكامِ لا يعدو أن يكونَ حديثَ علمٍ بلا عمل، وأنّ تقديمَ مصلحةِ الجماعةِ الكُبرى على مصلحةِ الفرد الصُغرى ضَربُ تنظيرٍ لا أكثر!!
(إنه من الوعي أن يلتمس الداعيةُ فى رحلته: الأولويات، فلا تكون الوسائل على حساب المقاصد، ولا النوافل على حساب الفروض، وأن يكون مُهتماً بإصلاح الجوهر أولاً ثم يُزيّنه بالمظاهر، ويبدأ بالأهم ثم المهم، ويعلّمُ الناس الموازين والقواعد، ولا يُشغلهم بالتوافه أو المرجوحات، وكذلك عليه أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، حتى لا يكون بعض الحديث فتنةً لبعض، وبهذه المعرفة يستطيع قطعَ المراحل)2.
أولويّات حِراك التغيير
لم يكُن فقهُ الأولويات طارئاً على تاريخِ الدُعاة والمُغيّرين، ففي يوسف آية سَبَقَتْ في فقه الأولويات.. فهو عليه السلام لم يتوانى في كلّ سكنةٍ أو حَركةٍ لتبليغِ الدعوةِ والجهرِ بها. ثُمّ لمّا دعاهُ المَلِكُ -وهوَ من هوَ عليه السلام جُرْأةً وصَراحةً- كانت أولويّتُه الأولى حِفْظَ مِصرَ وأهلِها، دُونَ معاداةٍ لأحدٍ -حتى لو كان مُشْركاً- في رسالةٍ جَليّةٍ لمِصْرَ ومن فيها مِنْ بَعدُ: أنَّ حِفْظَ الأوطانِ والأَهلينَ أولويّةٌ كُبرى في مخطّطِ العمل، وبذا تتساقط كلُّ رُؤى العنفِ السياسيّ والتغلّبِ بالقوة، إلاّ ما اضطرِرتُم إليه!!
وقد كان في ثورةِ مصر اليومَ -رغمَ أن عِقدَها الفريدَ من بين أخواتها لم يَكْتمِل نَظْمُهُ بعدُ- تَجليّاتٍ لهذا الفقهِ الأصيلِ الذي وعاهُ أهلُ العلمِ والعمل ليرثوا ابن تيمية والعزّ بن عبد السلام وغيرهما بفهمهم لأحوالِ أُمّتهم في قاعدةِ النسبيةِ المشهورةِ التي وَضَعاها في تقديمِ المصالحِ، ودراسةِ أولويّاتِ حِراكِ التغيير والعملِ بالترجيحِ النوعيّ في اختيارِ الأحلافِ وغيره من تقديمِ أمْثَلِ الفسقة وأصلَحِهم إنْ تعذّر وجودُ العدالةِ المطلقةِ المرجوّة.
الأَولَى.. فالأَولَى
ففي الغفلةِ عن هذا الفقهِ ما فيه من مفاسدَ ليسَ أقلّها تقديم المفضول على الفاضل، والبعدَ عن درجات الكمالِ لروّاد العمل. غير أنّا في الآن ذاته لا ننسى أنّ هذا الفقه برمّته قائمٌ على الشرع، ومن نبعهِ يرتوي، فلا بدّ من الحفاظِ على الضوابطِ الشرعيةِ عند التقديمِ والتأخير.
وبعدَ هذا، فلا يكون تحييدَ بعضٍ من الأهدافِ كمرحلةٍ للعمل نسياناً لها، ففي الوقتِ الذي كان المسلمون منشغلون بزَحفِ قريشٍ وقبائل العرب نحوهم في الأحزاب والجميعُ يرقُب المشهدَ الحاضر بين يديه، كانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُذكى روح الأمل إبقاءً ليقظة قلوب المؤمنين ببُشْراه لهم بفتح بلادِ الرومِ وفارسَ واليمن، وكذا يكون أصحاب الرؤى المستقبلية؛ ثقةً وثباتاً وطُموحاً.
فلا ضيرَ إن انشغلنا ذاتَ مرّةٍ بهدفٍ آنيٍّ هنا، أو إشكاليةٍ دعويّةٍ هناك، إلاّ أن القلوب على الدوام تتطلّع إلى ما رُشّحت له من خلافةٍ على هذه الأرض، لتَعمُرها بميزانِ المؤمنين الدقيق بوَضْعِ الأمورِ في نصابِها، وتوزين الأعمال كلّها؛ الأَولَى فالأَولَى.
أولويّاتٌ.. حاضرة
ولمّا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الأولويةَ الآن لأصحابِ الرسالاتِ المشاركةُ الفاعلةُ الحقيقةُ في صنعِ التغيير ليكونوا بذا حلقةً في سلسلةٍ متينةٍ ترسمُ واقع الأمة ومستقبلها، وذلك بإيلاءِ عنايةٍ بالغةٍ للفكرِ الإسلامي الصحيح وترويجهِ بين الناس بإيجاد الحلولِ العمليّة لمعاشهم ورُقيّ أمّتهم بعيداً عن المواضيعِ الإنشائية والخططِ الارتجاليّة والفِكْرِ السقيم؛ ببناء نظامٍ يحكمُ العبادَ والبلاد –وإنْ افتراضياً- برؤيةٍ إسلاميةٍ حضارية.
وفي نظرةٍ فاحصةٍ غيرِ مُتخفيةٍ فقد آنَ لمناهجِ التربيةِ أن تتبدّل، وآنَ لنا أن نُمايز بين ما يصلحُ أن يكونَ جزءاً من منظومتنا التربويةِ وبين ما لا يَصلح إلاّ أنْ يكونَ إِرْثاً فكرياً مُقدّراً، لا مكانَ لهُ إلا ذاكرةُ الدعوةِ أو متحفُها!! والحالُ هذه لا يُعَدُّ انتقاصاً لأصحابِ الأفكارِ أو وضعاً من قيمتهم؛ لكنّه الحقُّ الذي يُنسبُ الرجالُ له، لا العكس.
إنّ المنهجَ الربّاني في الناسخِ والمنسوخ، وفي السابق واللاحق، بل وفي طرائق التعامل مع مكوّنات المجتمع الدعويّ أبلغُ مثالٍ وأوفاه. وما العهدان المكيّ بتفصيلاته العقدية، وقَبولَ الأصنامِ حول الكعبة فيهِ من جهة والعهد المدنيّ بتفصيلات الأحكام فيه ونَقضِ الشركِ كلّه في جهةٍ مقابلةٍ ببعيدان عن كلّ دارس.
ومِنَ الأولويّات الحاضرة كذلك؛ الاهتمامُ البالغُ بالأَتباعِ؛ بالتفرّسِ في وجوههم وتقديمِ أصحابِ الكفايات منهم، وقدْ يُتجاوزُ –أحياناً- عن كمالِ بشريّ لا يُتحصّل في سبيل تقديمِ كلّ حاذقٍ في فنّه عندَ حاجة الدعوةِ له، وكلّ أمرٍ يُقدّرُ بقدَرهِ.
وإذا دَارت عجلةُ الزمان، فإنّها أبداً لن تعودَ لتُمهل المتأخرين، ممن كَلّت أبصارهم، وفقدوا ميزانهم.. وبالبِدارِ تُؤتي الدعواتُ أُكلها بإذن الله.
__________________________________
1 أولويات الحركة الإسلامية – الدكتور يوسف القرضاوي
2 مسافر في قطار الدعوة – الدكتور عادل الشويخ