بعد أن تجعل نفسك مقياساً للعلاقات الاجتماعية تحبّ للناس ما تحبّه لنفسك، هناك فنون أخرى للتعامل مع المجتمع والتواصل معه وجذبه إليك، أهمها هو أن لا تجعل من الآخرين عدوّاً دائماً، رافضاً تلك المقولة التي أشاعها بعض أدباء الغرب وهي أنَّ "الجحيم هم الآخرون" لأنها تنطلق من واقع يفتقر إلى دفء العلاقات الاجتماعية، ومن وطأة الإحساس بالمشاكل التي يخلقها المجتمع غير المؤمن، ومن أجواء المنافسة غير الشريفة التي تدفع أحياناً إلى تحطيم الآخر وازاحته من الطريق بكلّ الوسائل والطّرق.
فجعل الآخرين شياطين أسلوب لا يتناسق مع الإنسان المؤمن الذي يتّسم باللباقة واللياقة والدَّماثة، فالآخر قد يسبب بعض المتاعب، لكن بشيء من الحكمة وشيء من الصبر وشيء من المواظبة نعرف كيف نكسبهم أصدقاء.
كسر العداوة
فممّا ينقل عن الرَّئيس الأمريكي الأسبق (أبراهام لنكولن) أن سيِّدة سمعته يثني على أعدائه، فسألته متعجّبة: أتخصّ بهذا الثّناء أعداء تسعى إلى تحطيمهم؟! فقال: أوَ لستُ أحطّمهم يا سيِّدتي حين أجعلهم أصدقائي؟ وقبل أن يكون (لنكولن) فقد تحرّك الأنبياء (عليهم السَّلام) وسيِّدهم النبيّ المصطفى (صلَّى الله عليه وسلَّم) في اتِّجاه كسر عداوة الخصوم وإحالتهم إلى أصدقاء، وبهذا النهج أيضاً تحرّك الأئمّة والأولياء الصالحون، حتّى لقد تحوّل الكثير ممّن يحملون الضغينة في صدورهم إلى أصدقاء وأولياء يحملون الحبّ والولاء في قلوبهم لمن ناصبوهم العداوة والبغضاء.
مبدأ إنسانيّ عظيم ذاك الذي يواجه الإساءة بالإحسان، فهو إذ يصرع الإساءة فيجعلها ترفس كالذبيحة حتّى تلفظ أنفاسها، يرفع من قيمة المحسن إلى درجة العفوّ الغفور، وذلك خلق من أخلاق الله التي يجدر بنا كمسلمين أن نتخلّق بها.
وقد قيل: «افعل الخير مع أهله ومع غير أهله، فإن لم يكن من أهله فأنت من أهله»، فبهذا الأسلوب الأخلاقيّ الرفيع ينتقل أحدنا من العدوانيّة الرافضة للآخر، إلى الذين يألفون ويُألفون، والأُولى قاتلة بينما الثانية باعثة على الحياة.
وعلى هذا، فإذا أردنا مقياس رقي مجتمع ومستوى إنسانيّته وحضارته، فإنّنا ننظر إلى كيفيّة تعامله الاجتماعي، فإذا كانت قواعد السّلوك وآدابه تحكم العلاقات بين أبنائه، فإنّنا نحكم على أنّ المجتمع يدرج في مدارج الرّقي، وأنّ أبناءه الذين يراعون قواعد السير الاجتماعي كما يراعي سائقو السيّارات قواعد السير المروري، هم على جانب من الوعي الحضاري التواصلي الراقي.
قواعد السلوك
ويخطئ من يظنّ أنّ القواعد والضوابط والآداب الأخلاقية تقيّد الفرد وتعيق حركته في المجتمع، أو أنّها تتعارض مع معنى الحرِّيّة، فإشارات المرور هي لضبط حركة السير، وتقليل نسبة الحوادث المؤسفة، وللحفاظ على السلامة العامّة، لا لشلّ الحركة المروريّة، وكذلك قواعد السلوك فإنّها تبعث على الشعور بالأمان والتناغم والتحابب وحسن المعاشرة وسعادة الجميع.
فهناك إذاً دعوة إسلامية واسعة النطاق لأن نُنشئ شبكة من العلاقات السَّليمة الحسنة مع الدائرة الإنسانية الأوسع، وليس فقط مع المسلمين من أبناء ديننا، شريطة الحفاظ على تعاليم وقيم وأخلاق ديننا الإسلامي وقواعده الشَّرعية، فالذي يهرب من النَّاس مؤثراً العزلة، والذي يلقي بمشاكله على شمّـاعة الآخرين ويعدّهم "الجحيم" ويتذمّر من سوء تعاملهم وسلاطة ألسنتهم لا يريد أن يعيش الواقع، وهو حريّ به أن يشعل شمعة أو شمعتين بدلاً من أن يبقى يطارد الظلام بلعناته التي لا تزيح أنملة من عتمة.
ولذا جاءت الدعوة الإسلامية الرَّائدة إلى أن نكون دعاة للناس بغير ألسنتنا، فالتَّقوى دعوة إسلامية، والورع دعوة إسلامية، والمعاشرة الطيِّبة بالتي هي أحسن دعوة إسلامية، والصّدق في الحديث، والمعاملة المخلصة، والرِّفق، وانصاف الناس وعدم بخسهم أشياءهم، كلّها دعوة إسلامية بليغة ومؤثرة أعمقَ التأثير بما لا تستطيع أن تفعله الكلمات أنّى كانت على جانب من البلاغة.