ليس غريباً أن ينجح الاستعمار في قولبة حبّ الأوطان إلى عنصرية مقيتة تفتِّت وحدة الأمَّة وتعيق تماسكها وقوّتها ونهضتها.
فبزعم حبّ الوطن، والانتماء له، والحرص على سيادته واستقلاليته، ظهر بعض -الوطنيين- ليفرّقوا بين أبناء الوطن الواحد، وليعطوا الناس شهادات في الوطنية، ويوزّعوا عليهم الأوصاف التي يناسبوها؛ كالانتماء، والخيانة، والعمالة وغيرها.
وربَّما نجح الاستعمار في قوقعة الاهتمام بالأمَّة، ومتابعة قضاياها، عبر التفريق بين الدويلات، بحيث لا ينظر كل شخص لأبعد من حدود القطر الذي يقطنه، فهو الأوَّل والآخر، ولا داعي للاهتمام بأيّة قضية أخرى، حتَّى لو ذبح شعب تلك الدولة بأكمله، أو أبيد عن بكرة أبيه.
هكذا سعى الاستعمار والأعداء إلى جعل الأمَّة الإسلامية عبارة عن دويلات قطرية، لا تستقل بحدودها فقط، بل تستقل بأفكارها، وبنظرتها للعالم، وفي الوقت نفسه تعادي من يجاورها، وتستعلي عليها، وترى نفسها خيراً منها.
لكنَّ الأسوأ من ذلك، أن يظهر هذا المفهوم البئيس بين أفراد الدولة القطرية الواحدة، فيظهر –الوطنيون- الذين يعدّون أنفسهم أصحاب الانتماء الأوَّل والأخير، فلا أحد ينافسهم، وهم السبَّاقون والوحيدون في حبّ الوطن، وما سواهم خائن وعميل وصاحب أجندات خارجية.
بل الأدهى من ذلك، أن يقسم هؤلاء الشرذمة، أصحاب الأبواق الناعقة، والطبول الخاوية، الشعب إلى شعوب، والأمَّة إلى أمم، ويشعلوا فتيل أزمة داخلية، وحرب أهلية، تحت مسمَّى الولاء والانتماء، والحرص على وحدة الوطن وحماية استقلاليته وأمنه.
أساليب المدعين..
ليس لهؤلاء أدعياء الوطنية وسيلة واحدة ليحدثوا الانقسام في الأمَّة، ويخلخلوا صفوفها، ويضعفوا كيانها، بل لهم أساليب مختلفة، نذكر منها:
- الاتهام: فهم يتهمون كلَّ من يخالفهم بالعمالة والخيانة، والتبعية لمن يعادي الوطن، حتى لو كان الوصف لا يقبله عقل سليم، أو صاحب لبّ واع، بل وحتى لو عرف من يتهمونه بالحرص على الوطن ووحدته، وتقديم كلّ ما يستطيع في سبيل خدمة وطنه والرقي به وجلب العزة له.
- نشر الإشاعات والأكاذيب: فهم يحاربون مخالفيهم، بأوراقهم الصَّفراء، وبنعيق أبواقهم، فيصفون مخالفيهم ومن يريدون إصلاح الفساد، بأبشع الأوصاف، ويجيشون الرأي العام ضد هذه الفئة المؤمنة، أبناء الوطن الواحد، ويشيعون بين الناس بأنَّهم ثلة ضالة يريدون تخريب البلد، وشقّ صفوفه، تماماً كما يفعل كلُّ من يعادي الحرية والنهضة والعزَّة، ويرضى بالعبودية والاستبداد؛ فهم يحترفون الكذب، والتضليل الإعلامي، بل هم يكذبون حتى يصدقوا أنفسهم، ظانين أنَّ حيلهم تنطلي على أصحاب العقول الواعية، والفطرة السليمة.
- قلب الحقائق: فهم يسخرون شعارات الوطنية، للحفاظ على مصالح الزعماء والأسياد، فهم يقلبون الحقائق، ويحوّرون المسائل، من سيادة الوطن، واستقلاليته وحمايته، إلى الدفاع عن المفسدين والفاسدين، وتجار الفتن، وسرَّاق الأموال، ولهذا فهم يحولون القضية من الحفاظ على الوطن، إلى حماية الزعماء والسَّادة، فهم –أي الزعماء- يمثلون كلّ الوطن، والوطن لا يتمثل إلاَّ بهم، ولهذا حينما يخرج دعاة الحق ليطالبوا بمحاسبة الفاسدين، فإنَّ هؤلاء المرتزقة ينبروا للتصدّي لهم، للحفاظ على مصالحهم ومكاسبهم التي تمدهم بما يشتهون.
إنَّ ما يقوم به أدعياء الوطنية مناقض لما شرعه الإسلام من أحكام ومقاصد، فهو ساوى بين الأفراد جميعهم، وجعل التقوى مقياساً للتفاضل بينهم
فليست المفاضلة بالعائلة أو الحزب- القمع والإرهاب: فهم لا يقتصرون على نشر الأراجيف، وبث الإشاعات، بل تمتد أيدي بلطجيتهم ومرتزقتهم للنيل من المصلحين وضربهم وإيذائهم، بل وقتلهم وتعذيبهم، والاعتداء على ممتلكاتهم، كلُّ ذلك في سبيل حماية الوطن من الفئة الضالة –حسب زعمهم- ظانين أنَّهم بأسلوبهم الهمجي سيخمدون صوت الحق، وأنَّه لن يقوم لدعاة الخير قائمة، لكنَّهم يغفلون أنَّ ذلك يسرّع في زوال سلطتهم، وذهاب قوتهم، وتحوّل الشعب عنهم، لأنَّهم يعلمون أنَّ هؤلاء فئة لا يهمهم إلاَّ مصالحهم، فهم عن الوطن بعيدون، وعن حبّه والانتماء إليه محاربون مخالفون.
التعارض مع مقاصد الإسلام
إنَّ ما يقوم به أدعياء الوطنية مناقض لما شرعه الإسلام من أحكام ومقاصد، فهو ساوى بين الأفراد جميعهم، وجعل التقوى مقياساً للتفاضل بينهم، فقال تعالى :{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، فليست المفاضلة بالعائلة أو الحزب والعشيرة، بل المفاضلة بما يحقّقه العبد من تقوى وقربة لله ربّ العالمين.
كما أنَّ تصنيفَ النَّاس بهذا الأسلوب، ووصفهم بالخيانة والعمالة والتبعية للآخرين، لا يستند إلى أدلة، بل هو مما تمليه عليهم شهواتهم وأهواؤهم، وما يبثه لهم شيطانيهم من الإنس والجن، والأصل أن لا يتهم أيّ أحد إلاَّ بدليل مستند على حق واضح أو حجَّة مثبتة، أمَّا الاتهام بمجرَّد اتباع الأهواء، فهو منهج مرفوض إسلامياً مذموم عقلاً.
أمَّا بث الإشاعات وممارسة العربدة والبلطجة، وضرب الناس، وإزهاق الأرواح، وحرق الممتلكات، فهو معلوم بطلانه وحرمته، وفساده كبير، يتجاوز فعلتهم، لينتشر بين أفراد الأمَّة، فتطيح بهم، وبكراسيهم من حيث لا يحتسبون.
إنَّ الأنظمة التي تدّعي الوطنية، تعلم أنَّها أفلست إفلاساً لا يدع لها مجالا إلاَّ أن تكذب وتزيف الحقائق، وتضلل الرأي العام، لأنَّها منبوذة شعبياً
إنَّ الأنظمة التي تمارس مثل هذه الحركات، تعلم علم اليقين أنَّها أفلست إفلاساً لا يدع لها مجالا إلاَّ أن تكذب وتزيف الحقائق، وتضلل الرأي العام، لأنَّها منبوذة شعبياً، لا تقوى على كشف الحقيقة وإظهارها للآخرين، وسوءتها مكشوفة مهما حاولت تغطيتها بأنواع من الدجل والكذب والاتهام.
إنَّ على هؤلاء الذين يمارسون مثل هذه الأفعال أن يتقوا الله تعالى، فالله سائلهم عمَّا يفعلون، ومحاسبهم عمَّا يقولون، وفي الوقت نفسه، فلا قداسة لمسؤول أو زعيم، حتَّى نجيز الكذب على الناس واستباحة دمائهم للدفاع عنه، بل الأصل في الأمَّة أن تحقّق مبدأ المحاسبة، والنصح والمراقبة والإرشاد، فإن لم يجد نفعاً، فالخلع والإبعاد، والثورة والتغيير.
إنَّ على المخلصين من أبناء الأمَّة أن يؤمنوا تمام الإيمان، أنَّ لكل مفسد طفيليات تعتاش عليه، وتموت من أجله، وعليهم أن يعوا خطورة أفعالهم، وما يريدونه من جرهم للفتنة والاقتتال والانقسام، ليبرّروا لأنفسهم القمع والقتل والاضطهاد، وبالتالي تعود على دعوة الإصلاح والتغيير بالإبطال والفساد.