في ظلِّ ازدياد نسب العنوسة في بلادنا و أزمات الزَّواج و المهور و الطلاق، كان لا بدَّ من الوقوف عند مثال لأب خطب لابنته و جهَّزها و حملها إلى زوجها فقير المال غني الحال، وهي القصة الرَّائعة التي نقلها الرافعي في وحي قلمه في شاعرية منثورة بعنوان: (قصة زواج وفلسفة المهر)، والتي تذكرنا بأعظم مسؤوليات الأب، وأجمل أحلام الحب، وأعظم مشاريع الاستقرار الزوجي، أنجح وسائل التصدي لعادات المجتمع والقيل والقال.
لو سمعنا عن أب يخطب لابنته لوجدنا الخبر في وسائل الإعلام تحت باب الطرائف والغرائب ولذهب بنا الظن أنَّ الأب مجنون أو يبيع ابنته، أو إنَّ ابنته كما نقول "بايرة" قد فاتها قطار الزواج، أو بها عيب صريح، أو أنَّ الخطيب "دلدول" ضعيف الشخصية!!!
وهو ما يجعلنا نتساءل؛ هل كان فقيه المدينة سعيد بن المسيّب ذلك الأب التاجر أو المختل؟ وهل كانت ابنته سلعة معطوبة يزاود عليها بالخسارة؟ وهل كان تلميذه عبد الله بن أبي وداعة ذلك الرَّجل المهزوز الذي يقبل جوائز الترضية، لأنَّها أفضل من العدم؟
أمَّا الأب سعيد، فقيه المدينة فشهد له عبد الله بن عمر قائلا : "لو رأى هذا رسول الله صلَّى الله عليه و سلم لسرّه".
ويذكر عنه الرافعي في معرض القصة أنَّه حجَّ أكثر من ثلاثين حجة ولم تفته التكبيرة الأولى في المسجد أربعين عاماً، و ما كان إلاَّ في الصف الأول.
الأب سعيد بن المسيب الذي عُرضت عليه صفقة تجمع المال والجاه و السلطة بمصاهرة الخليفة عبد الملك بن مروان بتزويج ابنته لابنه الوليد ولي العهد فرفض كل المغريات، ولم يكتفِ بأن يكون موقفه شخصياً وقراره فردياً، بل أراد أن يذكر بسنة الرَّسول في الزَّواج ويعمِّمها على طلابه و مريديه، فذكر في مجلسه حديث الرَّسول علية الصلاة والسلام أنَّ : "خير النساء أحسنهن وجوها وأرخصهن مهورا" .
فسأله من استهجن قراره في رفض خطبة ابنته للوليد : "يا أبا محمد كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر و حسنها هو يغليها على الناس، تكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟"
فكان فهم سعيد الأب والرجل والفقيه سبَّاقاً يؤكِّد إنسانية المرأة وإنسانية الزواج فرد عليه :" أهم يساومون في بهيمة لا تعقل و ليس لها من أمرها شيء إلاَّ أنَّها بضاعة من مطامع وليها يغليها على مطامع الناس؟ إنَّ خير النساء من كانت على جمال وجهها في أخلاق كجمال وجهها، و كان عقلها جمالا ثالثا، فهذه إن أصابت الرجل الكفء (والكفاءة هنا مربط الفرس) يسّرت عليه، ثم يسّرت، ثم يسّرت" أهم يساومون في بهيمة لا تعقل و ليس لها من أمرها شيء إلاَّ أنَّها بضاعة من مطامع وليها يغليها على مطامع الناس؟
أيها الفتيات، أتسمعن ما قاله فقيه المدينة : "يسّرت، ثم يسّرت، ثم يسّرت" إنَّ اليسرين يغلبان العسر، فكيف إذا كان اليسر ثلاثا؟ أيّ حب و أيّ استقرار طموحات تنتظر أسرة تبدأ حياتها باليسر، ويسير اليسر مؤكداً في ركابها، وتتأمل تحقّق وعد الله : (( ثلاثة حق على الله عونهم و منهم الناكح يريد العفاف)).
ويكمل الأب نظريته المتفردة في المرأة " إنَّها تعدُّ نفسها إنساناً يريد إنساناً، لا متاعاً يطلب شاريا...مهرها الصَّحيح ليس الذي تأخذه قبل أن تُحمل إلى دار زوجها، ولكنَّه الذي تجده منه بعد أن تُحمل إلى داره، مهرها معاملتها، تأخذ منه يوماً فيوما، فلا تزال بذلك عروسا على زوجها، أمَّا الصداق من الذهب والفضة، فهو صداق العروس الداخلة على الجسم لا على النفس، أفلا تراه كالجسم يهلك و يبلى؟ أفلا ترى هذه الغالية إن لم تجد النَّفس في زوجها قد تكون عروس اليوم و مطلقة الغد؟"
كم من رجال دفعوا مهوراً و اشتروا نساء و أقاموا أعراساً أسطورية كألف ليلة وليلة كان ختامها طلاقاً أو خيانة أو اعتداءات متكرّرة؟ هل المهر رمز تقدير و رغبة أم مكيال و وزن وسعر؟
كم من النساء يقمن كلّ سنة احتفالاً بذكرى الزواج في محاولة مستميتة لإحياء ذكرى العرس والعروس والعريس وشهر العسل وإشعال شرارة الحب الخافتة؟
ولا يكتفي سعيد بالقول دون الفعل، لأنَّ الصالحين قدوات وقادة يقولون ويفعلون، و ما أن ينتهي حتى يأتيه تلميذه الفقير الأرمل الذي جمع بين ضيق الحياة وكسرة القلب بوفاة زوجته، فيحس سعيد بألمه، فينصحه بالزواج فيرد عليه تلميذه : "يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، و من يزوجني و ما أملك إلاَّ درهمين أو ثلاثة؟" فيرد سعيد: أنا....
ويعلق الرافعي" أنا..أنا..أنا.. دوى الجو بهذه الكلمة في أذن طالب العلم الفقير، فأحس كأن الملائكة تنشد نشيدا يطن لحنه: أنا..أنا..أنا"
ولكن آباءنا اليوم إذا أتاهم الخاطب كان حالهم كوصف الشاعر:
فإذا أتيت إلى فلان خاطبا متفائلا بالقدر والمقدار
أعطاك من طرف اللسان مرارة تربو على صبارة الصبار
وتجيء أسئلة على أشداقه تلقى عليك كوابل الإعصار
من أنت؟ ما أصل القبيلة؟ من أنا ماذا جمعت لديك من أخبار؟
كيف الرواتب والوظيفة هل ترى وفّرت، ما قدر الحساب الجاري؟
سيارة الأستاذ ما نوعها أمن الوكالة أم من السمسار؟
في أي حي تسكنون أملككم أم تسكنون البيت بالإيجار؟
أيها الآباء، كم من الشباب من يوزن بالذهب ولا يزنهم عقلا و مروءة؟
كم من الشباب ينتظرون منكم أن تكونوا كفقيه المدينة فتقولوا أنا لها، أنا أزوّجك و لو كان المهر المادي المنظور حبات تمر.
كم من الآباء يفهم بناته بنظرة أو تلميح حيي وهي تقول له دون كلام: يا أبت زوجني فلان، كما كما قالت ابنة شعيب لأبيها عندما أعجبتها شهامة موسى عليه السَّلام : {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
كم من الآباء يستطيع أن يضرب بالقيل و القال عرض الحائط فيسعد نفسه وابنته والخاطب والمجتمع الذي كسب أسرة متحابة وقدوة يحتذى بها
كم من الآباء يفهم بناته بنظرة أو تلميح حيي وهي تقول له دون كلام: يا أبت زوجني فلان، كما كما قالت ابنة شعيب لأبيها عندما أعجبتها شهامة موسى عليه السَّلام : {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
ولم يتوقف سعيد عند الخطبة بل أتم الفضل فجهز ابنته و أخذها إلى دار زوجها وطرق الباب، فنادى ابن أبي وداعة وهو لم يفق بعد من حلم "أنا" أنا التي زوجها بها سعيد بن المسيّب ابنته ، "أنا" التي مزقت ظلمة الحاجة و الترمل و الوحشة "من بالباب؟"
فرد الشيخ: سعيد
ففكر ابن أبي وداعة: سعيد؟ من سعيد؟ أهو أبو عثمان؟ أبو علي؟ أبو الحسن؟ فكر في كل رجل يعرفه اسمه سعيد إلاَّ ابن المسيّب، فهذا الرّجل لم يطرق باب أحد، و لم ير منذ أربعين سنة إلاَّ بين داره و المسجد"
بين داره و المسجد.. لماذا غيَّر طريقه أيها الآباء، وهو الذي كان بإمكانه أن يصاهر الخلفاء؟
فخرج ابن أبي وداعة فرآه و خر قلبه إلى سابع أرض و ظنه رجع عن قوله و قال مكسورا: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك، ما تأمرني؟"
فرد سعيد: إنك كنت رجلا عزباً، فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك و هذه امرأتك"
أما البنت فلم تكن عمشاء و لا عوراء و لا عرجاء و لا مريضة و لقد شهد لها زوجها فقال" فدخلت بها فإذا هي من أجمل الناس و أحفظهم لكتاب الله وأعرفهم بحق الزوج، لقد كانت المسألة تعيي الفقهاء فأسألها عنها فأجد عندها منها علماً"
أيُّها الآباء، من منكم يقول أنا لها؟ أيها الفتيات من تقبل أن تتزوج من مثل ابن ابي وداعة على درهمين أو ثلاثة؟ أيها الشباب، من منكم يستحق أن يُخطب و يُزوّج و يُضحّى من أجله كابن أبي وداعة؟ و كم نساوي جميعاً في سوق الزَّواج والمهور والقدوات؟