{حتَّى يغيّروا ما بأنفسهم}، أو سقوط خطاب العنف
1- مؤتمر في القاهرة :
دعيت إلى مؤتمر في القاهرة، يوم 27/ 3/2011 وعنوان المؤتمر: "النهضة في ضوء التحولات السياسية في العالم العربي: مصر وتونس نموذجاً."
ووصلنا القاهرة قبل يومين من المؤتمر.. فأتيحت لنا فرصة أن نتجول في ساحات صناعة التحولات، وساحة التغيير، ميدان التحرير، وسائر ميادين القاهرة التي شهدت بطولات عز نظيرها.. وتضحيات واستبسالاً وثباتاً ورجولة وبطولة وتعاوناً وتآزراً من الشعب المصري البطل بكل فئاته وشرائحه ومكوناته. واللافت أن ميدان التحرير صار مقصد للسياح فقد رأينا فيه جموعاً منهم يلتقطون الصور..
وقد قاد الجولة بنا محام شاب يحفظ الأحداث والأمكنة بالتفاصيل، فكأننا نعيش الحدث من داخله، واستطاع بطريقة العرض "السيناريو" التي يتقنها إخواننا المصريون أن يجعلنا في قلب الأحداث وصميمها، وكأننا نعاينها ونعايشها.
وقد لمسنا التغيير مذ نزلنا مطار القاهرة. فسألنا المستقبلون: هل لمستم تغييراً؟ فقلنا: منذ الخطوة الأولى على أرض مطار القاهرة. لأول مرة ندخل "مصر إن شاء الله آمنين"! ولأول مرة لا نشعر بالعيون تحاول استكناه المخزون في الصدور، والمكنون في الضمير. واستشعرنا دفء الأخوة، وحرارة الترحيب، قبل أن نصل أحبابنا الذين يستقبلوننا.. ولله الحمد والفضل والشكر الذي لا ينقضي.
وقد كان سقف الكلام في المؤتمر عالياً، حتى إن الأستاذ منتصر الزيات المحامي المشهور خاطب المشير طنطاوي: "ألم يأن أن تبدأ محاكمة كل رموز النظام السابق بدءاً من مبارك وعائلته إلى باقي المجموعة"؟
أمَّا دولة الأستاذ الصَّادق المهدي، فكانت كلمته كلمة رجل دولة ورجل سياسة ورجل فكر وكياسة ورجل إستراتيجية وتخطيط، فقد حلق في آفاق مدهشة وجمع فأوعى.. وتكلَّم عن إستراتيجيات ورؤى، وحذَّر من مخاطر تحدق بالثورة. ومن أجمل الكلمات وأجمعها كلمة صلاح سلطان.. وكلمة محمد البلتاجي، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل. وأثبت تالياً نص كلمتي في المؤتمر:
2- تهنئة لمصر.. بين يدي الكلمة :
نهنئ مصر على تغيير المسار. ونهنئ مصر على طريقة تغيير الطريق وطريقة تغيير المسار.. فلقد رسمت مصر الطريق للتغيير، لكل العرب بل لكل شعوب العالم. وهي الثورة الكاملة كما وصفها هيكل والثورة البيضاء، من جهة القائمين بها لا المقاومين لها. ونهنئ مصر على عودتها لإمامة أمة العرب، وعلى عودة الوزن، فإن مصر عندما دخلت مرحلة انعدام الوزن، دخل العرب مرحلة انعدام الوزن. وبالعكس عندما عادت مصر إلى وزنها، عاد العرب إلى وزنهم.
ورحم الله شهداء مصر، الشموس التي سطعت في سماء مصر فصنعت فجر مصر. ويعلم الله أنّا بكيناهم كما نبكي أبناءنا، ونعتز بهم كما نعتز بخيرة أبنائنا.
ورحم الله شهداء الأمة في كل مكان، ارتقوا إلى الله لتنهض أمتهم وتستأنف دورها الحضاري في هذه الحياة.. وترتقي بين الأمم. ولكل شيء ثمن وهنيئاً لمن يدفع الثمن من دمه لنهضة بني قومه.. وبني دينه.
وأحب، أيها الأحباب، أن أنبه في هذا المقام إلى أننا لا نُنطق النصوص، معاذ الله، إنما النصوص تتكلم، ونحن نحاول أن نفهم. هذا دورنا بالضبط والتمام.
وكم أسعدتنا كلمة مصر في وجه "إسرائيل" قبل أيام: "نحذر "إسرائيل" من العدوان على غزة" والله يا مصر زمان ما قلت كلمتك. اشتقنا والله اشتقنا. أصلك زمان ما قلت زي الكلام ده.
وكم جميل أن يقول شعب بريطانيا: ما أحوجنا إلى ميدان التحرير في قلب لندن. وتقول روما مثلما قالت لندن.
يالله كم الفرق هائل بين عهد وعهد. عهد أعلنت فيه الحرب على غزة من القاهرة. وعهد تحذر فيه القاهرة من إعلان الحرب على غزة أو من العدوان على غزة!
3- سنّة التغيير :
سنة التغيير واحدة من أهم سنن الكون، وسنن الاجتماع. فالله تعالى يقول مشيراً إلى هذه السنة في موضعين من كتابه الكريم: أحدها قانون عام، والثاني قانون خاص. والعام نزل أولاً في مكة والثاني نزل في المدينة بعد غزوة بدر، في سورة الأنفال: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الرعد. "وذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" الأنفال.
وأما التغيير بمعناه المطلق فأوسع من ذلك، ودائرته أشمل، والأفق أرحب. فقوله تعالى: "كل يوم هو في شأن" الرحمن. أي يغير كل يوم في كونه ما يشاء. فهو سبحانه لا يتغير. إنما كل ما في كونه في حراك دائم ويتغير. من الذرة إلى المجرة. ولعل آية آل عمران تكون تفسيراً ولو جزئياً لهذه الآية من سورة الرحمن: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء..". إن الآية تعرض لواحد من أهم صور التغيير.. تغيير مراكز القوى وأنظمة الحكم. ومن هذا القبيل قوله تعالى: "إن ربك فعال لما يريد". هود. "فعال لما يريد" البروج. وفي سورة البروج نفسها: "والله على كل شيء شهيد" فهو شهيد ويعلم كل ما يجري وهو فعال أي كثير الفعل لما يريد. وإن بدا أن الأشياء مقيمة باقية فهو فعال.. وما يبدو أنه إبطاء إنما هو سنة الإمهال "فمهل الكافرين أمهلهم رويداً". ومن هذا أيضاً قوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض" القصص. والآيات كثيرة جداً، ولا نريد استقصاءها. لكن نذكر منها: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا" "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض" النور.
والقرآن الكريم أعظم دعوة تغييرية. وأوائل الوحي وبواكيره تضمنت دعوته التغييرية وَجَعَلْتها (لا أريد أن أقول حَصَرَتْها) في القراءة والتعليم. "اقرأ باسم ربك.. إلى.. علم الإنسان ما لم يعلم".
وحصر مهمة الرسول في التعليم إذ قال: "كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" فالتلاوة تعليم والتزكية تعليم.. وباقي الآية كله تعليم.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة: "لست عليهم بمسيطر". "إنما أنت نذير". "إنما أنت مذكر" "وما على الرسول إلا البلاغ المبين". "إنما أنت منذر" وقاعدة مهمة تضمنتها آية الأعراف: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". الأعراف. والعرف لا يمكن أن يكون منه أو فيه العنف.
ألا ترى أن النص أعني "العرف" محاط بضمانات حسن الفهم من قبل ومن بعد، أعني قوله تعالى قبله: "خذ العفو" وقوله تعالى بعده: "وأعرض" فانضبط مفهوم "العرف" بما أحاط به، هذا لو افترضنا أن مفهوم العرف قد يلتبس أو يغمض! وهو لن يلتبس أو يُشكل.
4- من التأصيل إلى التفصيل:
فإذا انتقلنا من التأصيل إلى التفصيل.. ومن التقعيد إلى الواقع العتيد، فإنا نجد تراكماً أو ركاماً من المظالم رمت بثقلها على كواهل المواطنين العرب، بحيث باتت عبئاً لا يحتمل، وقد احتملت طويلاً وكانت حملاً ثقيلاً تنوء لا بالعصبة أولي القوة فحسب، وإنما تنوء بالأمة أن تصطبر عليه وتحتمله إلى ما لا نهاية، فقامت تنفض عنها غبار الظلم والذل والرضوخ والغفلة والإهمال والتجاهل والتطنيش والتهميش، وتستعيد حياتها وحيويتها وحقوقها المسلوبة والمغصوبة والمنهوبة والمهدورة..
وقد أذهلت هذه الأمة العالم بما أنجزت، وأصبحت مدرسة للدنيا وللشعوب في الانتفاض على الركام والرغام والإرغام..
فقال أهل لندن: ما أحوجنا في قلب لندن إلى ميدان كميدان التحرير. وكذا قال أهل إيطاليا: نحتاج إلى انتفاضة كما أحدث العرب على ديموقراطيتنا الزائفة..
وأعظم ما في هذه المدرسة التغييرية أنها اعتمدت النهج السلمي فقد احتمل شباب ميدان التحرير الهراوات والغاز ودهس العربات ثم الجمالة والحمارة والبقارة والبلطجية، ولم يرفعوا في وجوههم عصاً ولا سكيناً ولا سلاحاً..
وإني أزعم أن الثورة الليبية ما حملت السلاح إلا مكرهة مضطرة مرغمة.. غير مختارة. لقد جرهم الحقيد ليبرر عنفه الإجرامي وتدميره للمدن، وقصفه للمدنيين.. بالراجمات والطائرات..
ولقد جرب الناس النهجين في البلد الواحد، وفي مجمل أو مجموع البلدان العربية والإسلامية.
جربت الجزائر الثورة المسلحة على النظام، وأعتقد أن النتائج كانت كارثية.. وأزهق من الأرواح ما هو كفيل بتحرير فلسطين.. وتم تعطيل أو إعاقة المد الإسلامي، وهدر عشرات من السنين في العمل للإسلام، تمّ هدرها وتأخير هذا المد كأن جهداً لم يبذل..
ومثل ذلك جرى في بلدان عديدة.. وما يجري في الباكستان الآن خسائر يومية في الفريقين، ولا خطوة واحدة إلى الأمام.
ولقد جسّد اليمن كل هذه المعاني الجميلة السامية من اللاعنف، وجسد أن الحكمة يمانية قولاً وفعلاً بتجنبه الاصطدام المسلح، برغم كل ما جرى.
مع أن أحرى بلد، إن جاز التعبير، باستخدام السلاح، لو كان ذلك مما يجوز أصلاً، لكان اليمن أحرى البلدان بذلك، وذلك لأن كل قبيلة تملك عشرات آلاف المقاتلين حاملي كل أنواع السلاح عدا الدبابات والطائرات. فلو فتحت النار لما أطفأها شيء.. ولاتّسعت دائرة القتل لتفوق ما جرى في الجزائر وليبيا مجتمعتين!
فبعض القبائل عندها من مقاتليها ما يفوق عديد الجيش المصري كله، بكثير!
5- من حق الشعوب المطالبة بالتغيير:
إن من حقنا كشعوب متحضرة أن نطالب بالتغيير. فنحن لسنا أقل من الشعوب التي تختار حكامها، وتختار من يديرون شؤونها. فلماذا نعامل وكأننا مجموعة من الهمج جاءوا من مجاهيل الغابات أو الصحارى؟
وما أسوأ كلمة قيلت: "الشعب المصري غير مهيأ للديموقراطية. وعندما يكون مهيأ سنحكمه بالديموقراطية". وهذا افتراء محض. وافتراض أن الشعب من طينة أحط. بل الشعب المصري مهيأ ومنذ البدء وليس منذ اليوم. إنما غير المهيأ من كانوا يحكمون بالعسف والعنف والخسف.. وهم في الخارج وأمامه في منتهى الضعف. وليس شخص مخولاً أن يتكلم عن شعب ويعبر عن عدم استعداده ليُحكم كالشعوب المتحضرة.. فالشعب أصدق أحوالاً وإنباءً من هؤلاء الناطقين أو الناعقين.. وأدق توصيفاً.
وليست دعوة التغيير تعني –بالضرورة- الانقلابات والفوضى الخلاقة أو غير الخلاقة. وإنما الإصلاح تغيير، ولا نعدل عن مصطلح القرآن: "حتى يغيروا" فلماذا الرهبة من كلمة، ومواجهة دعاتها بالعنف في الوقت الذي يزعم الجميع مضادتهم للعنف ورفضهم للعنف؟ من يرفض العنف لا يمارس العنف. ومن يقع في العنف.. يقع في العنف.
6- اللاعنف والعرف والفطرة :
لقد جعل الله للاعنف مردوداً على الذات، ومردوداً طيباً على الآخرين. فعلى الذات تعزيز وطمأنينة وتلاحم، ومواصلة وطول نَفس ومدد ذاتي وفوقه مدد إلهي. قال تعالى: "فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً" "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" ومردود على الآخرين: تقليص لعدوانيتهم، وتعاطف. وإن تأخرت النتائج قليلاً.. ولا يفل صفوف المعتدين مثل اللطف في صد العنف. وإلا فإن العنف يهيج غرائز الوحشية فيهم والحيوانية والعدوانية. قال تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم" فصلت "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون" المؤمنون "والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار" الرعد22 "ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون" القصص54. وقد وردت "أعرِض" 11 مرة كلها في المعنى الذي نحن بصدده. ووردت "اصبر" 19 مرة كلها في مجال التغيير والدعوة هذا سوى "اصفح" و"اهجرهم"..الخ
وبعد. فلقد هبت ريح الشعوب. وانطلقت مسيرة التغيير. وهي لصالح الجميع، وليست ضد أحد.. اللهم إلاَّ من كانت مصالحه ضد مصالح سائر جماهير الأمة. كزعماء قريش أمام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن يعاند سنن الله يناطح الكون، ويغالب الغلاب: ومغالب الغلاب مغلوب. "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إنَّ الله قوي عزيز".