يقول السلطان عبد الحميد الثاني آخر خلفاء الدولة العثمانية في معرض رده علي تيودر هرتزل الذي عرض عليه مبلغ عشرين مليون جنيه استرليني، في مقابل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكماً ذاتياً، "إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست مِلْك يميني، بل مِلْك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملاينيهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حيٌّ فإنّ عمل المِبْضَع في بدني لأهون علىّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلامية"، وهو ما يعنى أن فلسطين ليست من الدول والأوطان التى يمكن التفريط فيها، فهي بالنسبة للفلسطينيين والمسلمين ليست أرضاً فقط وإنما أرضاً وعقيدة وتاريخ (فهي مسرى الرسول صلي الله عليه وسلم، وهي الأرض المباركة، وهي ثالث الحرمين الشريفين)، كما يعني كذلك أن الصراع المحتدم بين المسلمين والصهاينة هو صراع عقائدى وليس سياسي، مثلما يحاول زعماء وقادة الكيان الصهيوني أن يظهروه، من أجل أن يوجدوا حالة من القطيعة ما بين المسلمين والفلسطينيين، الذين يعيشون في الخارج والذين يسببون للحكومات الصهيونية على اختلاف أطيافها السياسية أرق كبير لذا نلحظ مدى حرص وزيرة الخارجية الصهيونية السابقة وزعيمة المعارضة في الكنيست الصهيوني "تسيفي ليفيني" في إحدى زيارتها للولايات المتحدة على التنبيه لخطورة تحويل النزاع في فلسطين إلى نزاع عقائدى يصعب حله أو حتى التعامل معه.
وينسى الكيان الصهيوني ومن يدور في فلكه من المتآمرين والماكرين الساعين لشغل المسلمين عن مقدساتهم وحقوقهم المشروعة في أرض فلسطين، أن هذه الأرض "وطن يعيش فينا وليس وطناً نعيش فيه"، تماماً مثلما قال البابا شنوده الثالث بابا الاسكندرية عندما سئل عن علاقة المسيحيين بمصر، فالمسألة بالنسبة لنا ليست أرضاً نسعى لتحريرها من أرض المغتصبين، وإنما هي عقيدة راسخة نؤمن ونبذل أرواحنا في الدفاع عنها.
وإذا كان النزاع سياسياً مثلما تدعى ليفني وغيرها، فما سر تمسكهم بهذه الأرض، رغم أنهم لا يملكون فيها أية حقوق، حسب الوثائق التاريخية الثابتة والمعترف بها من كافة دول العالم، ورغم أن بريطانيا قد عرضت عليهم عندما أرادوا إنشاء وطن قومى لهم، استيطان أوغندة، إلا أنهم رفضوا لأن فلسطين بالنسبة لهم رمز تاريخي وعقائدي من شأنه أن يسهل عليهم مهمة التجمع من شتى بقاع الأرض.
الأمر نفسه بالنسبة للغرب المسيحي، الذي يعتقد أن وجود الصهاينة في فلسطين، من شأنه أن يسهل عليهم مهمة استردادها مرة أخرى، وفي نفس الوقت التخلص من العبء الكبير الذي كان يمثله اليهود لهم، إذ كيف يصدق المرء أن الغرب المسيحي الذي شن العديد من الحملات الصليبية من أجل استرجاع فلسطين من أيدي المسلمين عقب الفتح الإسلامي لها، يرضى باحتلال الصهاينة لها، بل ويساعد في تحقيق هذا الأمر، بل وكيف نفسر قول الجنرال "غورو" عندما دخل دمشق منتصراً بعد معركة ميسلون الشهيرة, مخاطبا قبر صلاح الدين الأيوبي: "ها قد عدنا يا صلاح الدين!" ووصف بوش لحربه ضد العراق بأنها حرب صليبية.
علماً بأن اليهود والمسيحيين لم يتمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية إلا في ظل الحكم الإسلامي لفلسطين، ففى خلال الحكم العثماني لم تتخذ أي إجراءات رسمية تستحق الذكر تناهض اليهود والمسيحيين أو تميز بينهم وبين السكان، بعكس ما ذاقوه من ألوان العذاب في ظل حكم الإمبراطوريات الأخرى.
وكلنا يذكر كلمات الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند فتح بيت المقدس، عندما أعطى أهل إيلياء الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وأمر بألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضام أحداً منهم.
وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون المسيحيين واليهود في القدس وغيرها أفضل معاملة عرفت في التاريخ، لدرجة أن المؤرخ الإنجليزى الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة في تاريخ الديانات، حيث كان أهل الذمة يعاملون كأهل البلاد الأصليين دائمـًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نص عليه الإسلام.
وتأكيد "برنار الحكيم" (الراهب الفرنسي) الذي زار القدس في القرن التاسع عشر على هذا الأمر، عندما ذكر أن المسلمين والمسيحيين واليهود في القدس على تفاهم، وأن المرء إذا ما سافر من بلد إلى بلد ومات جمله أو حماره ، وترك أمتعته مكانها، وذهب لشراء دابة من البلدة المجاورة يجد كل شيء على حاله لم تمسه يد.
ولكن ماذا نفعل والله سبحانه وتعالي يقول في كتابه الكريم "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".. (البقرة 120)، تلك الأية الكريمة التى نزلت مثلما أشار جمع من المفسرين (ابن جرير الطبري، والسيد رشيد رضا وغيرهم)، عقب مرحلةٍ من محاولات النبي صلى الله عليه وسلم لتأليف اليهود، لعلهم يستجيبون، وينقادون لدين الإسلام، إلا أنهم لم يفعلوا، فجاء هذا الخبر القاطع لكل محاولات التأليف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارسها معهم.
ويعنى ذلك بأن معشر اليهود، المتمثل حاليا بالكيان الإسرائيلي الصهيوني، ومعشر النصارى، المتمثل حاليا بأمريكا وأوربا، لن يرضوا عن المسلمين مهما فعلوا ما لم يتبعوا ملتهم، وينفذوا سياساتهم الإجرامية التى تخدم مصالحهم.
لذلك يتعين على المسلمين عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص داخل فلسطين وخارجها، ضرورة الوعى بخطورة المخططات الصهيو - أمريكية الهادفة إلى سلخهم عن أوطانهم ونزع عقائدهم من قلوبهم، وإغرائهم مادياً ومعنوياً من أجل أن ينسوا قضيتهم وينخرطوا في مجتمعاتهم الجديدة، الأمر الذي يمثل ضرراً فادحاً ليس فقط بمقدسات الأمة ومعتقداتها، بل وبتاريخ هؤلاء الأفراد وهويتهم الحضارية والدينية، إذ من شأن ذلك ان يجعلهم كالمنبتين الذين لا ماض لهم ولا حاضر ولا مستقبل.
فلسطين .. عقيدة وتاريخ
شاهد أيضاً
إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟
الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …