ذو القرنين ومنهج التَّمكين في الأرض

الرئيسية » بصائر قرآنية » ذو القرنين ومنهج التَّمكين في الأرض
alt

دعائم التَّمكين في الأرض عديدة، فالأرض أرض الله والخلق خلقه والسَّموات مطوّيات بيمينه، ولا يكون التمكين حق قدره إلاَّ للمؤمنين ليحكموا بالحق ويسوسوا النَّاس بالعدل، ودعائم التمكين عديدة؛ أهمها توكل على الله ينفي الاعتماد على غيره وقوَّة التَّخطيط بكلِّ أسباب القوَّة الممكنة شرعاً، وسياسة حازمة عادلة مع النَّاس.  
والتَّمكين ليس نوعاً من أنواع الغلبة والرّئاسة لا تعدو أن تكون تسلّطاً على رقاب النَّاس، وتحكماً في مصالح الخلق ومعاشهم، وفرض الأشياء عليهم دون إقناع أو دليل، بل هو عدالة وحرية للخلق، وإنصاف المظلوم والوقوف بجانبه في وجه الظالمين، وقد ذكر القرآن الكريم إحدى صور التمكين العادل الذي استحقه أحد عباد الله خلد القرآن ذكراه، وهو ذو القرنين، يقول تعالى: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً  فأتبع سبباً}.

وذو القرنين، أعطاه الله ملكاً عظيماً فيه من أدوات التمكين والجنود ممَّا لم يعطه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلّها حتى بلغ قرني الشَّمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمّي بذي القرنين.

العدل أساس الملك
وليس يتم التمكين إلاَّ بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبّر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدَّمار والهلاك، فذو القرنين مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إلى تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله ربِّ العالمين.

وقصة ذي القرنين تكشف عن عدله ودستوره وسياسته في الملك في البلاد التي افتتحها، يقول تعالى: { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في حين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً  قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً  وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً}، فلقد بلغ  ذو القرنين أمَّة من الأمم ، ذكر أنَّها كانت عظيمة من بنى آدم، وحين مكنه الله منهم، وحكمه فيهم، وأظفرهم بهم خيره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه حين قال:  {أما من ظلم}  أي: استمر على كفره وشركه بربه  {فسوف نعذبه}  أي: في الدنيا بنوع من العذاب،  {ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً}  أي: في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء،  فله جزاءً الحسنى  في الدار الآخرة عند الله عزَّ وجل  {وسنقول له من أمرنا يسراً}  أي: قولاً معروفاً.

تلك الصورة تجسِّد غاية العدل، وقمَّة العلم، وعلامة الهدى ودليل التمكين في الأرض دون جهل أو استعلاء، وتلك تجربة خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافاً، ولا استخدم البطش تجبّراً وتسلّطاً.

ولمَّا انتهى إلى مطلع الشمس، وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، قيل: المعنى أنَّهم كانوا يسكنون سهولا شاسعة، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل كانوا لا يملكون بيوتا أو أبنية تمنع عنهم أشعة الشمس وحرّها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئاً يغطّون به أجسادهم، وكانوا عراة فإذا أشرقت أصابتهم بأشعتها.

منهج ذي القرنين
وإذا كان القرآن لم يقص علينا من أخباره معهم كما قصَّ في أخبار من كانت الشمس تغرب عندهم، فلا شك أنَّ المعاملة بالعدل والحسنى، والدَّعوة إلى الإيمان والهدى، منهج داوم عليه ذو القرنين في كلِّ الممالك التي مرَّ بها والقرى، استوجبت ذكره في القرآن، ورضي عنه الرَّحمن، وكان بذلك نموذجاً صالحاً للممكنين في الأرض.
لم يكن تطواف ذي القرنين ينتهي عند حدود مغرب الأرض ومشرقها، بل هيَّأ الله له من الوسائل والإمكانيات، ما بلغه شمالها، وهناك وجد أمّة لا يكادون يفقهون قولاً: وذلك لاستعجام كلامهم وبعدهم عن النَّاس، وهي أمَّة عاجزة عن الدِّفاع عن نفسها، واتّكالية ترغب من الآخرين حلّ مشكلتها، ولذلك قالوا لذي القرنين:  فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً.
وهذه الأمَّة تجاورها أمتان كثيرٌ عددها، ويستفحل خطرها، وتعيث فساداً فيما حولها؛ إنَّهما يأجوج ومأجوج الذين قال الله في وصفهم:  {وهم من كل حدب ينسلون}، هما أمتان من سلالة آدم عليه السَّلام، ما كانتا في شيء إلاَّ كثرتاه، وهما المكثرتان لبعث النار، كما قال المصطفى صلَّى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها فيقال: إن فيكم أمتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج)).
لقد كان من رحمة الله لهذه الأمة أن وصلها ذو القرنين، وكان بناؤه السد برهاناً آخر على تمكينه في الأرض، فكيف وقع ذلك كله؟

لقد بلغ ذو القرنين بين السدّين، وهما جبلان متقابلان، بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على تلك البلاد، فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل، ويقال: إنَّ هذه المنطقة الواقعة جنوبي جبال القوقاز، وهى المسمَّاة الآن بأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، فطلب القوم الذين يسكنون فيها من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا، ويعطوه من المال ما يعينه على هذه المهمَّة، ولكن ذو القرنين، بعلمه وتمكين الله له، ردّ عليهم بقوله  ما مكني فيه ربّي خير،   يعنى: ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعون، وكذلك تلتقي كلمات الصَّالحين مع كلمات الأنبياء والمرسلين، عليهم السَّلام، وكلّها الثقة بالله، والتوكل عليه وحده، والاستغناء بما عنده، وكذلك يظهر لك توكل ذي القرنين، واعتماده أساساً على الله.

التَّخطيط الجيّد
ثم شرع ذو القرنين في بناء السّد، وكان عملاً جبّاراً، وتخطيطاً رائعاً، فهو أولاً يطلب من هذه الأمَّة المشاركة بمجهودها العضلي، وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً، قال: انفخوا: أي أجّجوا عليه النار، ولما كانت هذه المجموعة مشغولة بجمع قطع الحديد وصهرها، فهناك مجموعة أخرى تجمع النحاس، وتذيبه في القدور،  فلما تم صهر الحديد في الممر، وتمّ صهر النّحاس في القدور – أو في أي مكان آخر – جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السّد  قال آتوني أفرغ عليه قطراً،  والقطر كما قال ابن عبَّاس وغيره: النحاس المذاب، فأمرهم بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المصهور المذاب، فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدناً واحداً قويّاً متيناً، ثمَّ تركا حتّى جمدا، فصار سدّاً منيعاً عجيباً مدهشاً.
ثمَّة أمور عديدة يستوجبها التمكين في الأرض أظهرتها قصة ذي القرنين؛ أهمها التوكل على الله حقَّ التوكل، والتخطيط الفوري وبالأخذ بكلِّ القوى الموجودة، وعدم التراخي وهدر الطَّاقات، والعدل بين الناس.

{youtube}1gCdxksI9TI{/youtube}

معلومات الموضوع

الوسوم

  • قرآن
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    alt

    {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}

    ها هو شهر رمضان الفضيل قد انقضت أيامه ورحلت عنّا لياليه المباركات التي كانت مليئة …