الدينُ كلّهُ قائمٌ على أصلٍ لا تبديلَ فيه أو مواربة.. بدءاً بقواعدِ الدينِ وعقائدهِ.. مروراً بأحكامه وتشريعاته.. وانتهاءً بحياةِ الناس وأخبارهم.. ذلكم (التثَبّت)..
والتثبّتُ من ثَبَت ثبوتاً إذا استبان ووضح بعدَ تأنٍّ وتريّث.. وأثبتهُ إذا عرفَهُ حقّ المعرفة.. و(الأثباتُ) هم الثقاتُ.. ورجلٌ ثَبْت؛ متثبّتٌ في أموره..
تثبّتْ.. من دِينك..
ومع أولى الخطوات في دِين الإسلام أُمرنا أن نتثبّت من هذا الدين.. ليستقر في جنباتِ المرء.. قبل أن يصبحَ محركاً للعمل.. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}1.. فالعلمُ والفهمُ أولاً.. وربّنا جلّ وعزّ.. يأمرنا بهذا الأصل.. في أكثر الأمورِ أهميةً.. وأشدّها تأثيراً.. وعليه فَقِسْ حياتكَ ومعاشك..
ومن هذا الأصل انطلقت جملةُ العبادات كلّها.. فلا تكاد تحيدُ عنها.. حتى أنّ أهل الأصول وضعوا قاعدةَ: أنّ (اليقينُ لا يزول بالشكّ).. وفي فَلك هذا دارت نُظُم المعاملات والعقوبات على السواء..
وهيَ هيَ القاعدة ذاتها.. حين جاءت آياتٌ في وصفٍ عجيبٍ للتثبّت قبل الحُكمِ رغم العلم المُطلقِ منه سبحانه.. وذلك فيما تحدّثت الآيات عن كلمةِ الله ونبيّه عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السَّلام.. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}2.. لترسم صورةً للأصل عينهِ في التفاتةٍ سماويةٍ عظيمة..
والقيادةٌ.. تتثبّت..
هو دأبُ القادةِ الوعاةِ.. مع الجُندِ كافّةً.. فها هو نبي الله سليمان بعد أن تفقّد الطير ووجدَ الهُدهد غائباً.. يُعلن للملأ.. {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))3.. فهو بانتظار ذلك السلطان المبين والحجة البالغة لهذا الغياب في دَرسٍ للأتباع ألاّ نأخذَ الناس بالظِنّة فحسب.. وبعدَ أن قدّم الهُدهد بين يدي نبي الله حجّته.. قال سليمان عليه السلام له ولمن حوله ((سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}4.. حتى تبّينَ صِدْقُ الهُدهد من بَعدُ.. ليصير مناراً للدُّعاة.. في إيجابيته الفريدة..
وفي الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلّم صورٌ وضّاءةٌ عن التثبّت حيثُما يمّمت وجهكَ شطرَ سيرته.. يكفي أن تقرأ في غزوة بني المصطلق يوم أن جاءه ذاك الغلام زيد بن أرقم رضي الله عنه، لينقلَ له نبأ عبد الله بن أبي سلولٍ ومن معه وما دارَ بينهم -بعد أن حدَثَ ما حدث بين المهاجرين والأنصار عند بئر المريسيع- إذ قالَ له: يا غلام، لعلّك غضبتَ عليه، فيقول: لا واللهِ سمعتُ منه. ثم يعاوده: ((لعلك أخطأ سمعك، لعلك شُبّه عليك))5 فيقول زيدٌ: لا واللهِ لقد سمعتُ منه يا رسول الله.. ولا يُثنيهِ لومِ بعض أكابر الأنصار بعد أن جاء ابن سلولٍ نافياً الخبر.. ويقول: إني لأرجو الله أن يُنزل على نبيه حتى تعلموا أني كاذبٌ أم غيري.. فيغضبُ عمر رضي الله عنه لله ولرسولهِ من مقالةِ رأس النفاق ويقول: مُرْ بهِ عبّادَ بن بشرٍ فليقتلهُ.. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ثقة القائد: ((دعه، لا يتحدث الناسُ أنَّ محمداً يقتل أصحابَه))6.. هذا وابن سلولٍ كما يحتجّ البعض ليس بحاجة للتثبّت في خبر نفاقه أو خيانته أو تأليبه على المؤمنين.. ولكنّه الدرس للأمةِ كلّها.. وأول من يحتاجه بحقّ هم الدعاةُ.. أفراداً وقيادات..
أثباتٌ.. بتثبّتهم..
ولم يلبث الجُندُ قافلين من غَزاتهم هذه حتى يتجدّد الدرسُ وإنْ بصورةٍ أخرى تهزّ الكيان.. في حادثةِ الإفك.. إنّه وإنْ كان الحديث في غزوة المُريسيع تلك بشكلٍ مباشرٍ عن النفاقِ وأهلهِ لكنّها اليوم تحمل إشارةً صريحةَ لأهل الإيمان.. لمن يصدّقُ الفريةَ ويمشي بها.. يتلقّفها بلسانه.. ويُلقيها إلى لسان غيره.. دون أن يُمرّرها حتى على عقله.. {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}7.. وكيف لا يكون عظيماً ولم يراعي أهلُه حُرمةَ الصفّ.. ومقامَ الجندِ العاملين!!
إنّه خطابٌ للمؤمنين.. ليسَ غيرهم.. {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}8.. ليَبينَ الأثباتُ ويتمايزوا.. {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}9.. فهذه الإشاعةُ التي تسري في الصفّ ستُصيبُ الجندَ واحداً واحداً وإن لم يكونوا هم المقصودينَ فيها!!
ها هو أبو أيوبٍ الأنصاريّ وزوجه رضي الله عنهما.. يتحدّثانِ في قالةِ السُّوء تلك.. فيسألها: أكُنتِ فاعلةً ذلك يا أم أيّوب. فقالت: لا والله ما كنتُ لأفعلهُ.. فيقول: (فعائشةُ واللهِ خيرٌ منكِ!!).. إنّه ميزانُ المؤمنين.. فثقتي بنفسي تُدلّلُ على ثقتي بك.. كيف لا وقد أُكرِعْنا الحقَّ من معينٍ واحدٍ.. ومن أجل هذا كان الأَثباتُ.. أثباتاً!!
ألا بَئِسَ الشيطانُ.. وجُندهُ..
إنّ أيّ خبرٍ غير موثّق عند المسلمِ مرفوضٌ.. فهو لا يبني أحكامَهُ عليه مُطلقاً.. بل أكثر من ذلك.. فإنّ تناقل الخبر غير الموثّق تُصيّر المؤمن إلى كاذب.. بصريح الكتاب: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}10..
ومن أجلِ هذا حذّرَ النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم غير مرّةٍ من الشيطان وجُندهِ ((إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب. ولكن في التحريش بينهم))11.. أوَ بِعدَ هذا قد يُطلّ مدّعٍ بِحرصِه على متانةِ الصفّ ونقائه.. ثم هو يُعمل لسانهُ في الدّعاةِ العاملينَ.. يتصيّد زلّةَ هذا.. أو خطأ ذاك.. ويُصيخُ بسمعهِ لكلّ حركةٍ أو سكنةٍ تقدُح في عدالةِ إخوانه.. ليبدأ.. بتلقّف الأخبار وتلقيفها غيرَهُ.. ألا بَئسَ الشيطانُ.. وجندُهُ!!
وفي تشنيعٍ جديدٍ لحمَلةِ الأخبارِ المكذوبةِ غير الموثّقة تأتي آياتٌ أُخرياتٌ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}12.. وفي قراءة للكسائي.. (فتثبّتوا).. وأيّ ندمٍ أكبرُ من شرخٍ يصيب البناء الدعويّ إن تركناه نهباً للقيل والقال؟؟!!
وفي التثبّت.. مندوحة!!
إنّ إصدارَ الأحكام دونَ قَدْرٍ كافٍ من التثبّت ممَّا نعاه النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام على صنفٍ من القضاة ((القضاة ثلاثة واحد ناجٍ واثنان في النار؛ قاضٍ قضى بالهوى فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علم فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة))13.. والهوى وقلّة العلمِ كليهما ينتجان في جزءٍ كبيرٍ منهما عند أهل فنّ القضاء بعدم التثبّت.. واعتيادِ أخذِ الأمور بظواهرها..
والحديثُ وإن جاءَ بنصّه عن التقاضي بين الناس إلاّ أنّ روحهَ تنطِقُ عن حال المجتمع الدعويّ بجملته.. ليُتمّمه ما جاء عن الصَّادقِ المصدوقِ بعدئذٍ ((إنَّما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضا أن يكون أبلغ من بعض، أقضي له بذلك، وأحسب أنه صادق، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها))14.. وهو بذا يرسم خطّ التثبّت العمليّ للأفراد.. فإمّا قطعةٌ من نارٍ أو جنةٍ.. بعد أن رسمها من قبلُ لقيادات العمل..
انظر لموقف النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم مع حاطبِ بن أبي بلتعةَ رضي الله عنه قُبيل فتح مكةَ.. بعد أن فعلَ ما فعلَ.. وقد جاءهُ الخبر الذي لا يكذبُ من السماء.. لكنّه الدرسُ من جديد ليسأله ((يا حاطب، ما حملك على ما صنعت))15 فيشرعُ حاطب ويقول: يا رسول الله، لا تعجل عليّ.. فيستمع لحجّته كاملةً صلى الله عليه وسلم ويعلنُ عنه العفو لا لشيء إلاّ لأنّه من أهل بدر..
ثمّ دونكَ قصة ماعز رضي الله عنه بعد أن ارتكب حداً من حدود الله.. فلم يزل النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام يراجعه.. بـ لعلَّه.. ولعلّه.. ولعلّه.. حتى أقرّ بالذنب.. فأخذه به.. ثم تأتي خاتمة القصة فيما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يحدّث بها من بعدُ ((كنت فيمن رجم الرجل، يعني ماعزاً، إنا لما خرجنا به فرجمناه، فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به. ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما لترك حد فلا!))16 فحتى بعد كلّ هذا يا رسول الله تتثبّت؟؟!!
إنّ أصحابَ الرِّسالات لَهُم أولى الناس.. بألاّ يتعجّلوا إصدارَ أحكامهم على غيرِ هدىً أو تمحيصٍ.. وفي التثّبت مَندوحة.. وفي التَعليل الذي صاغه نبي الهُدى محمَّد صلَّى الله عليه وسلّم بـ(لعلّ.. ولعلّ.. ولعلّ) أنصعُ برهانٍ وأهدى سبيلٍ.. ((ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة))17..
وبالتثبّت.. سار السلف..
إنّ المراوحةَ بين هذه الدروسِ العظيمةِ جعلت سلف هذه الأمَّة على يقينٍ تامٍ بأهمية التثبّت ودوره في حفظ تراثِ الأمة.. وحاضرها على السواء.. وقد كان الأصحابُ رضي الله عنهم أولَ من أخذَ بهذا المذهب الجليل.. فما كان يسمعُ أحدهم حديثاً عن رسول الله حتى يتوثّق ويتثبّت ممن سمعه.. يُروى أنّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمّا سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن عبد الله بن عمرو قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنَّ الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهَّال، يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون))18 أرسلتْهُ في أثره وقالت (يا ابن أختي، انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه).. لتُردف قائلة بعد أن استوثقت واستثبتت: (الله لقد حفظ عبد الله بن عمرو)..
وليُعلم ها هنا أنّ التثّبتَ لا يعني انتقاصاً لناقلِ الخبر أو تشكيكاً في أهليّته أو دينه.. وكم من الرّجال في قرونٍ سلفت كانوا أعلامَ هدىً وتقوى.. ومع هذا كانت تُردّ رواياتهم.. أو يُسعى للتثبّت منها.. فهذا هو ديننا.. وكذا يكون منهجنا.. ذلكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا سمع من أبي موسى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: ((الاستئذان ثلاث؛ فإن أذن لك، وإلاَّ فارجع))19 قال له: لتأتيني على هذا ببيّنة وإلاّ فعلتُ وفعلت.. حتى جاءه بأُبيّ بن كعب رضي الله عنه ليشهد معه.. وقال: سبحان الله! إنَّما سمعت شيئاً، فأحببت أن أتثبت.
ومن هذا الباب جاء علمُ الرِّجال.. في نقل المرويّات.. فقد كان أحدهم يقطع القفار الشاسعات ليسمعَ الحديثَ ويطمئن لراويهِ.. (هلاك أمتي في العصبية والقدرية والرِّواية من غير ثبت)20.. أما وهذه حالهم.. وهم من هم ثقةً وعدالةً وقُرباً من النبعِ الوضيء.. فكيف بنا اليوم وقد كَثُرت وسائل الإعلام وتعدّدت أقلام الصّحافة.. فهو أحرى بالتأني والتمحيص.. والتثبّت في الرواية.. وأخذ الأخبار بموازين العقل والموضوعية من بابٍ.. والثقةِ بالجندِ والأتباعِ من باب آخر.. بعيداً عن الإثارة والتعميم.. والشكِّ المشوبِ بالعجز..
ولا تتّبع الهوى.. فيُضلّك
وفي ركوعِ داوودَ عليه السَّلام، إذ جاءه الخصمان ليتحاكما عنده مثالٌ حيّ للدعاةِ.. فقدْ حكم لخصمٍ دون آخر من غير تثبّتٍ كافٍ وبيّنةٍ جليّة من كليهما.. فظنّه اختبارٌ من الله.. ((فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ))21.. ثم يأتي من بَعدُ الدرس الربّاني ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))22.. لا لداوودَ فحسب.. بل لكلِ الحُداة.. حيث مُنتهى ما يتمنّاه واحدهم ((فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ))23
إنَّ البعدَ عن التثّبت هو شكلٌ من أشكال التطرّف المذموم.. والدارسُ لبواعثِ التهاونِ في التثبّت يجدِ الأمر لا يعدو أن يكون تغليباً للهوى على الحق.. فهو إمّا إفراطٌ في الانحيازِ للناقل أو التفريط في مقتِ منقولٍ عنه والانحياز ضدّه.. وغالباً ما تجدُهُ تعطيلاً للعقل على حساب العاطفة.. وقد كان تحذير الدعاة دوماً أنْ (ألجموا نزواتِ العواطف بنظرات العقول).. وفي مقابل هذا.. فالتثبّتُ هو ميزانٌ يُنزلُ الناس منازلهم.. ولا يُبعدهم عن بشريّتهم..التي يعتريها السَّهو والنسيان والتخليط والغلوّ أحياناً..
وعَوْداً على بدءٍ حيث حديثُ الإفك.. ولنختم بحرصِ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم على الصفّ.. فبعدَ أن أنزلَ الله براءةَ الصدّيقة رضي الله عنها من السماء.. اقتصّ نبي الله عليه السلام من الوالغينَ في الإشاعةِ الناقلينَ لها دون بيّنةٍ.. في درسٍ جديد آخر.. أنَّ قُدسيّة الصفّ أعظمُ من أيٍّ كان.. وإن كان واحداً من أهلِ بدر.. فما ظنّك بقومٍ لم يَنسموا عبيرَ بدرٍ؟؟!!
غيرَ أنّ هذا لا يُنسي الفضلَ وأهلهُ.. وإن عثروا.. لكنّهُ البِدارُ بالتصحيحِ!!
وعلى هذا الأصل المتين سار الأفذاذ من حملةِ لواء الدَّعوةِ لدين الله.. سلفاً وخَلفاً.. قادةً وجُنداً.. في أحكامهم وأحوالهم.. يحدوهم دُعاءُ سيّدهم الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلّم.. ((اللهم إنّا نسألك التثبّت في الأمر))24.. كلّ الأمرِ.. عندَ كُلِّ عَزْمةٍ!!
-----------------------------------------------
الهوامش:
1 سورة محمد – الآية
2 سورة المائدة – الآية
3 سورة النمل – الآية
4 سورة النمل – الآية
5 أوردهُ ابن حجر في الفتح من مراسيل الحسن
6 رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
7 سورة النور – الآية
8 سورة النور – الآية
9 سورة النور – الآية
10 سورة النور – الآية
11 رواه الإمام مُسلم رحمه الله في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
12 سورة الحجرات – الآية
13 أورده الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.. ورجاله ثقات
14 رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث هند بنت أبي أُميّة رضي الله عنها
15 رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
16 رواه أبو داوود رحمه الله في سننه من رواية محمّد بن إسحاق.
17 أورده البيهقي في السنن الصغير من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه يزيد بن زياد الشَّامي وهو ضعيف
18 رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
19 رواه الإمام مُسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
20 أورده الذهبي في (ميزان الاعتدال)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.. وفيه هارون بن هارون، وقد ذُكر من جرحه
21 سورة ص~ – الآية
22 سورة ص~ – الآية
23 سورة ص~ – الآية
24 أورده ابن حجر في نتائج الأفكار من حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه، وقال: (حَسَن).
بالتَثَبّتِ .. نغلق أبواب الشَّيطان
شاهد أيضاً
إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟
الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …