(المرأة هي الجناح المهيض، فلتتحمَّلي قليلاً، لعلَّ الأمور تتحسن إلى خير)..
كانت هذه نصيحة أحد المصلحين الأخيار لصديقتي بعد أن شكت له مرَّ الشكوى من ظلم زوجها لها، والحق يقال، أنَّ الشيخ تبنَّى مشكلتها وسعى بينها وبين زوجها باستماتة الحريص ونفسية الأب المشفق الذي يخاف على ابنته من الظلم المزدوج الذي قد يضيفه عليها المجتمع فيما لو أصبحت مطلقة.
ويحمد لرجال الدين والمصلحين وأصحاب الرَّأي مساعيهم في الإصلاح والتقريب بالذَّات في حلِّ المشاكل الزوجية، وتجاوز من هو الظالم والمظلوم في محاولة تجنيب الطرفين الأساسيين الزوج والزوجة، وربما طرف ثالث وهم الأولاد ورابع وهو المجتمع مأساة الطلاق وهدم الأسرة، ولكنَّ المساعي الإصلاحية بقدر ما هي محمودة إلاَّ أنَّها أحياناً تزيد في ترسيخ ثقافة ظلم المرأة واستضعافها واستقواء الرَّجل.
عبارة (الجناح القوي والجناح المهيض)، قد تعود بالخاطر إلى مربع السياسة؛ حيث أجنحة اليمين واليسار والتشدّد والليبرالية وأحزاب متصارعة وسياسيون متنافسون؛ كلٌّ يبحث للآخر عن حفرة ليوقعه فيها، أو مربع حلبة المصارعة الحرة، حيث ملامح الإجرام والبطش تتلبس بالرّياضة وباطش ينتظر أن يرفع الحكم يده بيده بإشارة النصر ومبطوش به مكوم على الأرض بين جراح الهزيمة والكرامة والفضيحة العلنية.
صحيح أنَّ الحياة الزوجية تخضع للمشاكل والامتحانات والأنواء، ولكن هل يجب أن تكون المرأة هي دائماً من يتحمل الخسارة و التضحية؟ قد نتخيل الجناح القوي والجناح المهيض في منزل الزوجية بزوجين على طرفي رحى كل يريد أن يطحن الآخر، أو طرفي ملعب كل يريد أن يسجل أهدافاً في مرمى الآخر، وكم كانت العبارة بعيدة عن الحالة الزوجية القرآنية (مودة ورحمة)، (مستقر ومستودع).
صحيح أنَّ الحياة الزوجية تخضع للمشاكل والامتحانات والأنواء، ولكن هل يجب أن تكون المرأة هي دائماً من يتحمل الخسارة والتضحية؟! هل الإسلام الذي جعل الطلاق أبغض الحلال، ووضع أمامه سدوداً من التقوى والصبر والأجر والإمهال تتعالى أمام أصحاب الضَّمائر الحيَّة من الرِّجال هو الذي استضعف المرأة وجعلها جناحاً مهيضاً، مسلوبة الحقوق في الزَّواج والطَّلاق؟؟
لقد أكرم الله النِّساء في الإسلام بحقوق عزَّ نظيرها في غيره من التشريعات؛ فها هي الصَّحابية خولة بنت ثعلبة تنزل فيها سورة المُجادلة بضم الميم، عندما اشتكت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ظِهار زوجها لها، (والظهار كان موجودا في الجاهلية حيث كان الزوج يُحرم زوجته عليه بأن يقول لها أنت علي كظهر أمي).
وللإعلاء من حقِّ المرأة وشكواها، فإنَّ الله يرفع الشكوى له سبحانه {وتشتكي إلى الله} مع أنَّ المُخاطب كان رسول الله، كما يسجل الله سبحانه في الآية نفسها، وهو من وسع الأصوات كلّها تأكيداً وإثباتاً وتكريماً لها أنه جلَّ وعلا يسمع شكواها {و الله يسمع تحاوركما}، والرَّسول يرد عليها بتحريمها على زوجها، فلا تقفل راجعة إلى بيتها (مهيضة الجناح) مكسورة الخاطر، بل تراجع الرَّسول مرَّة بعد مرَّة بعد مرَّة، فيما لم يكن الرّجال ليفعلوه من مراجعة الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام خوفاً من غضب الله، وتدافع عن حياتها وحقوقها الزوجية بما فيها الجنسية وحقوق أبنائها وتضحيتها طوال سني زواجها شاكية: (أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني حتى إِذا كبرتْ سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني ولي منه ولد إذا ضممتهم له ضاعوا، وإذا ضممتهم لي جاعوا).
فلمَّا أعاد عليها رسول الله الرد نفسه بالتَّحريم قالت: (اللَّهم إني أشكو إليك وحدتي وفاقتي)، فنزل فيها قرآن وحكم إلهي غير حياة البشرية وحياة النساء.
لم تخرج خولة بنت ثعلبة (مهيضة الجناح) من عند رسول الله، لم يكن الله سبحانه وتعالى ليرضى لأحد من عباده بأن يكون مهيض الجناح، فكيف والأمر يتعلَّق بالمرأة والأسرة التي أرادها أن تكون الأساس في بناء المجتمع وإقامة شرعه على الأرض؟!لم تخرج خولة بنت ثعلبة (مهيضة الجناح) من عند رسول الله، لم يكن الله سبحانه وتعالى ليرضى لأحد من عباده بأن يكون مهيض الجناح، فكيف والأمر يتعلَّق بالمرأة والأسرة التي أرادها أن تكون الأساس في بناء المجتمع و إقامة شرعه على الأرض؟!
لم تستضعف قِوامة الزوج خولة، ولم تسمح له بتدمير كيانها الأسري وكل ما أمضت حياتها في بنائه بساعة غضب أو نزوة طيش، كانت القِوامة يومها تُفهم بالرحمة والمودة والعدل والتظليل على الأسرة لا كما تمارس اليوم بالتعسف والاستقواء، هذا الفهم الحقوقي هو ذاته ما شجَّع صحابية على خلع زوجها عندما لم تطق الحياة معه في أول ممارسة لحق الخلع الذي ظل مؤخراً سنيناً بين الإقرار والإنكار، وأخرى أن ترد شفاعة الرَّسول بالعودة إلى زوجها الذي يحبها عندما كرهته، وهو ذاته الذي ما دفع إحدى الصحابيات أن تشكو أباها لرسول الله، لأنَّه أراد أن يزوجها لابن أخيه بغير رضاها.
كانت المرأة في عصر ازدهار الإسلام تفهم حقوقها وقدرها في جميع مناحي الحياة، فها هي ذات المرأة خولة بنت ثعلبة توقف الفاروق عمر وتنزله عن راحلته وهو أمير المؤمنين وتقول له: بالأمس عرفتك صغيراً ينادونك عميراً، فكبرت فأصبحت عمرا، فكبرت فصرت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية، لم ترهبها رجولة عمر التي كان يتجنبها الرّجال ولا سطوة الخلافة بعدما عرفت ومارست حقوقها الشرعية والسياسية كإنسانة ومواطنة.
إنَّ من ينادون بتمكين المرأة لن يفلحوا بذلك باستيراد قوانين ومعاهدات من الخارج وضعت وصيغت لتناسب الحالة النسائية والأسرية الأوروبية التي لا يمكن أن تكون مقياسا للحالة النّسائية والأسرية في الوطن العربي والإسلامي.
إنَّ التمكين يكون من داخل المجتمع وثقافته بالرجوع إلى الدين وتربية الرجال قبل النساء على فهم النص الديني وتربية النساء على ممارسة حقوقهن دون الخوف من التبعات الاجتماعية المبنية على الفهم الخاطئ والصور النمطية للمرأة (كجمل المحامل) و(جناح مهيض) يجب أن ينخفض لكلِّ من أراد أن يركبه أو يقصفه.
إنَّ فهم المرأة لحقوقها الزوجية ومطالبتها بها لا يعني أيضا تحول البيت إلى ساحة حرب أو محكمة بمطالبات دائمة وشكاوى مستمرة، فإذا فصلنا الحق عن المودة والرَّحمة أصبحت بيوتنا بلا سقف، ولكن محافظة المرأة على خيوط المحبة في الشدائد والرغبة في الإبقاء على الأسرة ليس معناه مزيدا من الاستضعاف والابتزاز، فلأولاد والمحبَّة والعشرة يجب أن تكون نقاطا في صالح المرأة لتحسين حياتها لا لاضطهادها، وهو ما تقع فريسته كثير من النساء كما تقول الكاتبة غادة السَّمان: (الاضطهاد بالمحبة قضية مركبة ومعقدة تربك الذي يحاط بها أكثر مما يربكه العدوان الواضح، الاضطهاد بالمحبة نوع من القمع السري ندفع بالشخص إلى ممارسته بذاته على ذاته تحت لواء الوفاء).
لقد جعل الإسلام المرأة جناحاً قويّاً في حقوقها، جناحاً رحيماً في أفعالها حتى إذا ما سادت المودة والرَّحمة لم يعد أحد ليبحث عن الحقوق وما له وعليه، لأنَّ تحصيل الحق بالرَّحمة يصبح أمراً من نافلة القول.
أمَّا الأجنحة المستقوية من الذكور، ولن نسمّيَها القويَّة من الرِّجال؛ إذ إنَّ الاستقواء ظلم وتجبّر لا يمارسه إلاَّ من هو ضعيف ومريض في نفسه، بينما القوَّة الحقيقية تخلّق رحمة وحكمة في النّفس لا تضع القوَّة إلاَّ في موضعها حين الاضطرار، أمَّا الذكورة فصفة بيولوجية كجنس مقابل الأنوثة، أّمَّا الرجولة فتكتسب اكتساباً بما فيها من صفات النَّخوة والاستيعاب والعضد، هذه الأجنحة قد تكسب جولة أو جولات تزهو فيها بانتصارات الظَّالمين على المستضعفات من النساء، فلا نجد لهم من عبرة سوى ما سارت به السنن الأولى من حوادث التاريخ عن قصة زوج ظلم زوجته وغصبها حقوقها وطلقها، فأرسلت له تقول: زدنا ظلما حتَّى نزيد في دعاء السَحَر، فما مضى عليه يومين إلاَّ وقد اعتل وأشرف على الموت فأنشد:
سهام أيدي القانتات في السّحر يرمين عن قوس له اللَّيل وتر
أيتها النّساء والزَّوجات، لقد أعطاكن الله حقاً وعدلاً، فلا ترضين الدَّنيَّة في دينكن.