لم يكن ذاك الصَّوت الذي صدح به أبو محمَّد عادياً أو عديم التأثير، بل كان صوتاً مدوّياً، يشحذ الهمم، ويرفع المعنويات، ويحثّ النَّفس على الجهاد والاستشهاد، ورفض الخنوع والاستسلام، أو الذّل والهوان.
إنَّه فارس عرفته فلسطين مقداماً مجاهداً، ثائراً عزيزاً، لم يعرف المهادنة أو النفاق، وكان على الطريق ثابتاً، وعلى نهج شيخه الياسين والشهداء من قبله ماضيّاً، جدَّد في فلسطين سيرة القسَّام والحسيني، وذكّرها بسير القادة الفاتحين، والأبطال المجاهدين، فكان نعم المؤيّد لهم، ونعم المحمّس للاستشهاديين الذي أوقعوا باليهود، شتّى أصناف العذاب والثأر لدماء الأبرياء، وثرى المقدسات.
المولد والنَّشأة والتعليم ..
وُلِد عبد العزيز الرنتيسي في 23/10/1947 في قرية يبنا (بين عسقلان ويافا) . ولجأت أسرته بعد حرب 1948 إلى قطاع غزة و استقرت في مخيم خانيونس للاجئين و كان عمره وقتها ستة شهور .
التحق الرنتيسي بمدرسةٍ تابعة لوكالة غوث و تشغيل اللاجئين الفلسطينيين و أنهى دراسته الثانوية عام 1965 ، و تخرّج من كلية الطب بجامعة الإسكندرية عام 1972 ، و نال منها لاحقاً درجة الماجستير في طب الأطفال ، ثم عمِل طبيباً مقيماً في مستشفى ناصر في خانيونس.
نشاط دائم وحركة دؤوبة ..
- شغل الدكتور الرنتيسي عدَّة مواقع في العمل العام منها : عضوية الهيئة الإدارية في المجمّع الإسلامي و الجمعية الطبية العربية بقطاع غزة و الهلال الأحمر الفلسطيني . كما عمِل في الجامعة الإسلامية في غزة منذ افتتاحها عام 1978 محاضراً يدرّس مساقاتٍ في العلوم وعلم الوراثة وعلم الطفيليات.
- اعتقل عام 1983 بسبب رفضه دفع الضرائب لسلطات الاحتلال، و في 5/1/1988 اعتُقِل مرَّة أخرى لمدة 21 يوماً ، و أسّس مع مجموعة من نشطاء الحركة الإسلامية في قطاع غزة تنظيم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في القطاع عام 1987 .
- اعتقل مرَّة ثالثة في 4/2/1988؛ حيث ظلّ محتجزاً في سجون الاحتلال مدَّة عامين و نصف العام على خلفية المشاركة في أنشطة معادية للاحتلال الصهيوني، و أطلق سراحه في 4/9/1990 ، واعتُقِل مرَّة أخرى في 14/12/1990 و ظلّ رهن الاعتقال الإداري مدَّة عام كامل.
- أُبعِد في 17/12/1992 مع 400 شخصٍ من نشطاء و كوادر حركتي حماس و الجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان؛ حيث برز كناطقٍ رسمي باسم المبعدين الذين رابطوا في مخيم العودة بمنطقة مرج الزهور لإرغام الكيان الصهيوني على إعادتهم.
في الرابع والعشرين من آذار (مارس) 2004 ، وبعد يومين على اغتيال الشيخ ياسين، اختير الدكتور الرنتيسي زعيماً لحركة "حماس" في قطاع غزة ، خلفاً للزَّعيم الروحي للحركة الشهيد الشيخ أحمد ياسين
- اعتقلته قوات الاحتلال الصهيوني فور عودته من مرج الزهور وأصدرت محكمة صهيونية عسكرية حكماً عليه بالسجن حيث ظلّ محتجزاً حتى أواسط عام 1997 .
- خرج د. الرنتيسي من المعتقل ليباشر دوره في قيادة حماس التي كانت قد تلقّت ضربة مؤلمة من السلطة الفلسطينية عام 1996 ، وأخذ يدافع بقوَّة عن ثوابت الشعب الفلسطيني وعن مواقف الحركة الخالدة، ويشجّع على النهوض من جديد ، ولم يرقْ ذلك للسلطة الفلسطينية التي قامت باعتقاله بعد أقلّ من عامٍ من خروجه من سجون الاحتلال، و أفرج عنه بعد 15 شهراً بسبب وفاة والدته وهو في المعتقلات الفلسطينية .. ثم أعيد للاعتقال بعدها ثلاث مرات ليُفرَج عنه بعد أن خاض إضراباً عن الطعام، و بعد أن قُصِف المعتقل من قبل طائرات العدو الصهيوني وهو في غرفة مغلقة في السجن المركزي، لينهي بذلك ما مجموعه 27 شهراً في سجون السلطة الفلسطينية .
- و في العاشر من حزيران (يونيو) 2003 نجا صقر "حماس" من محاولة اغتيالٍ نفّذتها قوات الاحتلال الصهيوني، و ذلك في هجومٍ شنَّته طائرات مروحية صهيونية على سيارته، حيث استشهد أحد مرافقيه وعددٌ من المارَّة بينهم طفلة .
- و في الرابع والعشرين من آذار (مارس) 2004 ، وبعد يومين على اغتيال الشيخ ياسين، اختير الدكتور الرنتيسي زعيماً لحركة "حماس" في قطاع غزة ، خلفاً للزَّعيم الروحي للحركة الشهيد الشيخ أحمد ياسين.
- واستشهد الدكتور الرنتيسي مع اثنين من مرافقيه في 17 نيسان (أبريل) 2004 بعد أن قصفت سيارتهم طائرات الأباتشي الصهيونية في مدينة غزة ، ليختم حياة حافلة بالجهاد بالشهادة.
ليس السّر خلف شخصية الرنتيسي هي تلك المؤهلات التي نالها، أو التجارب التي عايشها، بل هو الإصرار، والعزيمة، والتضحية والثبات
الرنتيسي .. نموذج صعب تكراره
ليس السّر خلف شخصية الرنتيسي هي تلك المؤهلات التي نالها، أو التجارب التي عايشها، بل هو الإصرار، والعزيمة، والتضحية والثبات.
فكم من النَّاس أتقنوا صف الكلمات والعبارات، واستخدموا كلَّ ما هو منمَّق ومرتَّب ومزخرف من الألفاظ، إلاَّ أنَّها لم تغيّر في النفوس شيئاً، ولم تشعل حماس النَّاس، بينما نجد ذاك الأسد الهصور، يوافق قوله فعله، وتخرج الكلمات نابعة من صميم قلبه، ومن أعماق نفسه، فتتحول هذه العبارات إلى قنابل وصواريخ، ومحفزات لاستمرار المقاومة والجهاد، والسير بخطى ثابتة نحو النصر أو الشهادة.
كانت فلسطين، تترقب طلته البهية، بشموخه وعنفوانه، وتستمع بشغف لتلك الكلمات الثائرة، التي تعيد في أهل فلسطين، أمل العودة، إلى "فلسطين كلّ فلسطين" ، فلا فرق بين فلسطين وفلسطين، كما قال الشهيد البطل.
ولن تنسى فلسطين تلك اليد المباركة، والتي حملت الرَّشَّاش عاليا، لتعلن للناس أنَّ هذا هو الطريق؛ الطريق للحرية، والعزة والإنسانية، فلا حرية تحت الاحتلال، ولا عزَّة ولا سكوت والقدس مغتصبة تحت أيديهم، وأهل فلسطين يحاصرون ويقتلون ويسجنون، لا لشيء إلاَّ لأنَّهم مسلمون، مرابطون على أرض المحشر والمنشر.
لن تنسى فلسطين الرنتيسي، وهو يؤكِّد على وحدتها وعدم انقسامها، فيافا كغزة، وتل الزهور كرفح والجليل كالخليل، لا يفرق بين شبر وشبر من أرض الوطن. على حد قوله.
ولن تنسى فلسطين، ذاك الذي تحدى اليهود، بأن يقصفوه، أو يغتالوه، بل يعاهد الله أمام الناس، بأن يمضي قدما في مسيرته نحو تحرير ثرى الوطن من دنس الصهاينة الغاصبين.
ولن تنسى فلسطين، عبد العزيز الصَّامد، الذي تحمل أعباء حركة تجملت بشهدائها واستشهادييها، فتحمل الأمانة، حتى سلمها لمن بعده، معلنا أنَّ المسيرة لن تتوقف، وأنَّ الرَّاية ستظل خفاقة مرفوعة، رغم كيد الكائدين، وبطش المعتدين.
شعره رافد لتعزيز الصمود والمقاومة ..
ورغم كلِّ الأمور التي حمل أعباءها الشهيد البطل، إلاَّ أنَّ للشعر زاوية خاصة عنده، فسخره لخدمة القضية، وتحفيز الأمة، لأداء واجبها، وما كلفت به، من مقاومة المحتل، وتحرير الأرض والمقدسات ..
قمْ للوطن وادفع دِمَاكَ له ثَمَن .. واطرحْ بعيداً كلَّ أسبابِ الوَهَن
فالموتُ أهونُ من غُبَارِ مذلَّة.. فلربَّ ذلٍّ دام ما بَقِيَ الزَّمن
أفمن يذوق الموت كأساً واحداً .. يجلو كما التّرياق أوصاب البدن
أمن يعيش العمر ميتاً يشتهي .. طعم البلى فيرد كلا لا ولن
قم واصنع التاريخ واسلل غيظه.. قد لطّخ التاريخ صناع الوثن
خلِّ البكاءَ إلى النِّساء مطيَّة... واربأ بنفسك أن تسربل بالحزن
إن جردت أسد الكتائب سيفها.. سهل البلاد وغورها أبدا ً يصن
أمَّا إذا صار التَّخاذل شرعة ً .. كلا وربك لن يقوم َ لنا وطن
إنَّ الشهيد الرنتيسي، صدق الله في وعده، فنال ما أراد، فهو فضل الموت بالأباتشي، فكان له ما طلب، ونال الشهادة، ليعلن للأمة، أن فلسطين لا تقف قضيتها على شخص واحد، وإنما هي أجيال يحمل رايتها الأبطال، ليسلموها لأبطال آخرين
رحمك الله يا أسد فلسطين، فالوطن قائم وعائد، طالما أنَّ الأمَّة فيها ممَّن نهجوا النَّهج الذي اتبعته، وسلكوا الدرب الذي اقتفيته، وطالما أن فيها أولئك المجاهدون، الذين يُقَنْبِلون أنفسهم لتكون أشلاؤهم ثمنا للحرية، وطرد الغزاة المجرمين.
إنَّ الشهيد الرنتيسي، صدق الله في وعده، فنال ما أراد، فهو فضل الموت بالأباتشي، فكان له ما طلب، ونال الشهادة، ليعلن للأمة، أن فلسطين لا تقف قضيتها على شخص واحد، وإنما هي أجيال يحمل رايتها الأبطال، ليسلموها لأبطال آخرين، يواصلوا الكفاح والجهاد، حتى يحققوا إحدى الحسنيين.
رحمك الله يا أسدَ فلسطين، ويا صقر حماس، فحق لفلسطين أن ترثيك في ذكرى استشهادك، وحقّ لها أن تستذكر بطولاتك ورجولتك وشموخك، وأن تنتظر اليوم الذي تعود فيه حرَّة، لتقر أعين جميع الشهداء الذي روّوا بدمائهم الزكيَّة ثرى الوطن.