كثير من الناس يقرؤون القرآن فلا يشعرون بأيّ لذة أو أثر في نفوسهم، بل إنَّ البعض ممَّن يحسب على أهل القرآن، يكون سلوكه مخالفاً لما يقرؤه.
فكم من الناس، وهم يحفظون القرآن، ويتلونه باستمرار، نجدهم يرتكبون ما نهى عنه القرآن وحذَّر منه، وفي الوقت نفسه ، يبتعدون عما أمر الله به في كتابه العزيز، ممَّا ينتج شخصية متناقضة، بين ذاك القارئ العابد، وبين ذاك العاصي المخالف لما جاء في تعاليم القرآن.
وفي الوقت نفسه، يقرأ البعض القرآن، إلاَّ أنَّهم لا يشعرون مطلقاً بأنَّه يروي ظمأ نفوسهم، فيتعاملوا مع القرآن كوظيفة يومية، أو روتين دائم، فيقرؤوا القرآن وعيونهم على آخر الصفحة أو الجزء لينهوه، فإذا انتهى منه فرحوا لأنَّهم أدوا الواجب، دون أدنى فهم أو اعتبار لما حوته هذه الآيات من معانٍ وأحكام.
وليست المشكلة محصورة بالناس العاديين، أو بصنف دون صنف، بل هي تشمل بعض أبناء الدعوة الإسلامية، حيث يظهر من تصرفاتهم ما يخالف ما يقرؤونه ويتدبروا آياته، ومن ناحية أخرى، نجد بعضهم يحاول أن يملأ ما يسميه فراغاً روحياً، عبر وسائل يظنها مشروعة، لكنها في الحقيقة قد تناقض ما يحمله من أعباء وما كلّف به من واجبات.
إن الصحابة رضي الله عنه، لم يقرؤوا القرآن كما نقرؤه نحن، ولم يتعاملوا معه كما نتعامل معه ، بل إنهم عرفوا مكانته، وقرؤوه كما يجب قراءته، فصار الواحد منهم يبكي من قراءة آية، أو يموت عند أخرى، أو يثبت إيمانه ويزداد عند قراءة آية أخرى.
مشكلة وواقع
ليس عدم تدبر القرآن والتأثر به أمر بسيط، بل إنَّ التأثر والتدبر وتطبيق ما فيه، يدخل ضمن الإيمان به، فليس الإيمان بالقرآن هو أن نؤمن أنه من عند الله تعالى فقط. بل لابدَّ أن تكون الأمور سالفة الذكر داخلة ضمن مضمونه، بحيث يقوم بها الفرد خير قيام.
وهنا نكتشف سرّ تغيير نفوس الصحابة رضي الله عنه، فهم لم يقرؤوا القرآن كما نقرؤه نحن، ولم يتعاملوا معه كما نتعامل معه ، بل هم عرفوا مكانته، وقرؤوه كما يجب قراءته، فصار الواحد منهم يبكي من قراءة آية، أو يموت عند أخرى، أو يثبت إيمانه ويزداد عند قراءة آية أخرى. وكما وصفهم الله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال : 2].
أمَّا الكثير من الناس في زماننا، فصاروا يمرون على آيات العذاب دون تفكّر، وعلى آيات الرَّحمة دون طلب لها، وكأنه يقرأ في كتاب أجنبي لا يفهم أي معنى من مفرداته.
ويمكن أن نعزو هذه المشكلة لمجموعة من الأمور، منها:
1- عدم فهم حقيقة القرآن الكريم، فالبعض يظن أنَّ القرآن الكريم هو كتاب أنزل للقراءة فقط، ولهذا نجد البعض يتسابقون في قراءة الأجزاء والصفحات، فيختم أحدهم المصحف مرَّات ومرَّات في الشهر – خصوصاً في رمضان- دون أن يتدبر بآية واحدة، أو يعرف معنى من معانيه، أو يتمثل بسلوك من السلوكيات التي يدعو إليها القرآن. والأدهى من ذلك، أن يكون القرآن الكريم كتاب مسابقات، فنحول آياته لأسئلة، وسوره لفوازير، بحيث يرجع المرء للقرآن، لا ليقرأ، ولكن ليجيب عن ذاك السؤال.
وهذا كله مخالف لحقيقة القرآن، فهو ليس كتاب للأحاجي أو الألغاز، وليس صحيفة تقرأ، بل هو كتاب فيه تدبر وتأثر، وعمل وتطبيق، ولهذا فَهِمَ سلفنا الصالح حقيقة القرآن، فكانوا خير القدوات لنا، فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي – صلى الله عليه و سلم - ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن و العمل جميعا). بل إنَّ السلف من الصَّحابة، قد حذروا من سوء فهم حقيقة القرآن ومكانته، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما يقول : ( لقد عشنا برهة من الدهر ، و إن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ، و تنزل السورة فنتعلم حلالها و حرامها و زواجرها و أوامرها و ما يجب أن نقف عنده منها . و لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره و لا زاجره و ما ينبغي أن يقف عنده منه ، ينثره نثر الدقل).
إنَّ المشكلة التي تعاني منها أمتنا هي مشكلة إيمانية بالدرجة الأولى، تليها المشكلات الأخرى، السياسية والفكرية والاجتماعية. وهذه الأمَّة لا تصلح إلاَّ بما صلح به أولها، بإيمان عميق، يقوى بالقرآن، ويزداد به شعلة وتوهجاً، مما يدفع صاحبه للتضحية والإقدام، وعدم الكسل والملل والانهزام.
2- عدم تحديد المشكلة التي تعاني منها الأمَّة، فالبعض حتى الآن لم يحدد ما طبيعة المشكلة والعائق الذي يحول دون رفعة الأمَّة، وما السبيل لنهضتها، وزوال غفوتها وسباتها، فالبعض يرى أنَّها مشكلة فكرية بحتة، لذلك يكب على قراءة كتب الفكر دون أن يعود لما يُرَشِّد هذا الفكر وينيره، بل ويقع بخلافات جدلية ربما تعود على ما ينادي القرآن به بالبطلان والنقض. والبعض الآخر يظن أنَّ المشكلة سياسية فيتعمق في قراءة كتب السياسة والتحليلات السياسية، دون أن يطّلع على سنن التغيير في القرآن، ومواقف أعداء الأنبياء المتماثلة والمتكرّرة والمتقاطعة مع مواقف أعداء الدعوات والإسلام.
إنَّ المشكلة التي تعاني منها أمتنا هي مشكلة إيمانية بالدرجة الأولى، تليها المشكلات الأخرى، السياسية والفكرية والاجتماعية. وهذه الأمَّة لا تصلح إلاَّ بما صلح به أولها، بإيمان عميق، يقوى بالقرآن، ويزداد به شعلة وتوهجاً، مما يدفع صاحبه للتضحية والإقدام، وعدم الكسل والملل والانهزام. وليس هذا يعني أن نقتصر على قراءة القرآن دون اطلاع على ما يفيدنا ويغير حالنا، بل نستفيد من القرآن ونتأثر به، وكذلك نستفيد من كل ما ينهض بالأمة ويغير حالها، بشتى المجالات والنواحي. وفق ترتيب للأولويات، وما تحتاجه الأمة لتنهض وترقى.
3- الخطأ في فهم مصطلح أهل القرآن، والتركيز على الأجر دون النظر لما جلبته القراءة من أثر وفائدة، فالبعض يرى أنَّ الهدف هو القراءة، لأنَّ كثرة القراءة تجلب الحسنات بشكل أكبر، ولهذا يقوم البعض بقراءة القرآن بشكل سريع دون نظر لمعنى أو مضمون، أو يتضمنه من أحكام وفوائد، ويقوم الآخرون بالتركيز على الحفظ، وكأنهم يحفظون نصوصاً جامدة دون فهم ووعي، بل ويتفاخر البعض بحفظ القرآن كآيات يرددونها ويعيدونها، أو قد تصل بالبعض إلى أن يحفظوا القرآن بشكل عكسي، ناهيك عن إقامة المسابقات لحفظه وترتيله، لكن دون تركيز على ما استقر في الفرد من معانٍ وسلوك، وقيم وأخلاق.
ولا يفهم من الكلام أننا ضد الحفظ، وإقامة المسابقات على حفظه، وتكريم الحفاظ، لكنَّ الخطأ أن نركِّز على هذه المعاني دون أن ننزل القرآن المكانة التي أنزل لأجلها، وهو كونه كتاب هدى ونور، وتوجيه وتشريع، وتربية وتغيير للنفوس.إنَّ الأمة لا تحتاج إلى نسخ جديدة من القرآن المقروء، بل هي تحتاج إلى نسخ حية من القرآن العملي التطبيقي، فهي تحتاج لأولئك الذين يتمثلون بأخلاق القرآن، وينفذون أوامره، ويتجنبون نواهيه، ويظهر فيهم معالم الشخصية التي رسمها القرآن، لأنَّهم سيكونون قادتها، وحاملين رايتها الحقيقية، التي تنهض بها، وتحررها من براثن الاحتلال وظلام الاستبداد. إنَّ الأمة لا تحتاج إلى نسخ جديدة من القرآن المقروء، بل هي تحتاج إلى نسخ حية من القرآن العملي التطبيقي، فهي تحتاج لأولئك الذين يتمثلون بأخلاق القرآن، وينفذون أوامره، ويتجنبون نواهيه، ويظهر فيهم معالم الشخصية التي رسمها القرآن، لأنَّهم سيكونون قادتها، وحاملين رايتها الحقيقية، التي تنهض بها، وتحررها من براثن الاحتلال وظلام الاستبداد.
4- الاشتغال بفروع العلم الشرعي المختلفة، ونسيان العودة للمنبع الأصلي لها، وعندها يخوض البعض بالخلافات، ويفرقوا الأمة بناء على الجزئيات الفقهية، والعبارات المجزوءة، دون فهم لأصل الدليل، ودون مراعاة لمقاصد القرآن من الحفاظ على وحدة الأمة وقوتها، فيصبح البعض يعيش في كهنة علمية، يحفظ متوناً جامدة، دون تأثير أو تطبيق، ولهذا قد نجد عند البعض، كماً هائلاً من المعلومات الشرعية، لكن دون تطبيق وتأثير، ودون أن يتأثر بما يحوي أصل هذه المعلومات، حتى إذا قرأ القرآن، فإنه يُجَيَّر آياته لما فيه خدمة لهواه ورأيه وحزبه، وهو ما يعني انحراف عن المقصد الأساس للقرآن الكريم.
5- التقليد الخاطئ، فالبعض اعتاد على أن يسمع القرآن فقط في بيوت العزاء، أو افتتاح الدروس واللقاءات، ولهذا نظر إليه كنظرة مادية، حتى إذا قرأه لم يفهمه ولم يتدبر ما يحويه. بل والبعض يريد أن يقلد القرّاء المشهورين، ومن رزقهم الله حسن الصَّوت، فيطغى عامل جمالية القراءة، والتغني في ترتيله، على مضمونه، فيركز على تحسين الصَّوت، دون أن ينظر إلى تهيئة القلب للتأثر به، أو النفس والعقل لفهم الأوامر والقيم التي ينادي بها.
حلول عملية
على الرغم من خطورة المشكلة، وآثارها السلبية التي تتركها على كثير من الأفراد، بحيث نجد التناقض الواضح بين الفرد القارئ، والفرد العامل. أو أن يترك بعض الحفاظ سلك الدعوة، أو حتى ينقلبوا على أخلاقهم والتزامهم، وما حفظوه من آيات، وغيرها من الأمور. أقول: رغم كل المخاطر، إلاَّ أنَّ هناك حلولاً لهذه المشكلة تتمثل بما يلي:
1- فهم حقيقة القرآن الكريم، فهو كتاب إيمان وتوجيه، وتربية وتشريع، وهو ليس كتاب قراءة فقط، أو كتاباً يوضع على رف الكتب، لا يفتح إلا في رمضان، ولهذا لابد للمرء أن يعود نفسه على أن يقرأ القرآن ويتأثر به، فيتدبر آياته، ويستشعر معانيها، ويحاول أن يطبق كل خلق من الأخلاق، أو كل أمر من الأوامر الواردة، وفي نفس الوقت يتجنب كل أمر نهى عنه القرآن، وحذر منه، حتى يكون ربانياً حقاً.
2- الإكثار من قراءة القرآن وإطالة المكث في قراءته، فلا يأتي التدبر بقراءته مرة أسبوعياً مثلاً، بل لابد أن يكون هناك تواصل يومي مع القرآن، بحيث يزداد تعرض القلب والنفس لمعاني القرآن وأحكامه، فتصبح هذه الحالة مقاماً ثابتاً فيه، فيبقى التأثر تأثراً دائما، مما يؤدي لثورة داخل النفس البشرية، وتغيير في سلوكها وحالها.
3- تهيئة الجو المناسب لقراءة القرآن، فلا يصح التأثر والتدبر مع وجود عوامل أخرى، كوجود التلفاز، أو الجلوس بجانب ما يشغل المرء ويلهيه عن التفكر والتدبر، بل لابد أن يكون هناك جو مناسب لإعمال العقل، وتفعيل القلب ليتلقى الرسائل الإلهية بحيث تتفاعل نفسه معها، وفي نفس الوقت، لابد وأن يعود نفسه ألا ينظر إلى نهاية الجزء أو نهاية الصفحة لينهي قراءته، بل يستمر بالقراءة، بغض النظر مهما قرأ، ويعيد القراءة عند تأثره بآية من الآيات، فهنا يكون القلب قد وجد المفتاح الضائع، ومن هنا يكون منبع التأثير والتغيير.
4- أن يدعو الله تعالى أن يجعله ممن يتأثروا بالقرآن، ويلح بالدعاء بأن يكونوا كالسلف، فالأصل أن يدعو المسلم ربَّه كلَّ يوم بإلحاح وإصرار، على أن يرزقه تدبّر القرآن والتأثر به والعمل به، فالله يستجيب دعاء المؤمنين، ولا يردهم خائبين.