بسم الله القويّ المتين
محبّ الذَّاكرين
ورافع حفظة كتابه في عليين
تضيق حروفي أمام وصف ذاك الرَّابط الرُّوحي العجيب بين قلب المؤمن ليسكن ويشعر بالسَّعادة، وبين ذاك الكتاب المعجز الذي قال فيه أكبر أئمَّة الكفر : (إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أسفله لمغدق، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّه ليعلو ولا يُعلى عليه، وإنَّه ليحطم ما تحته، ولا يقول ذلك بشر ..).
قد قالها زعيم كفر متكبّر متعنّت، فماذا يقول بربِّكن قلبٌ متعطِّشٌ محبّ يريد أن يروي ضماه بماءٍ برد ؟!
سأروي لكنَّ قصة امرأة معاصرة من عصرنا هذا، بل وما زالت تعيش بيننا,فإنّ لها مع القرآن قصة وحكاية، أبى قلبها إلاَّ أن يكون هو ساكنه لا أحد آخر !!
وأبدأ قصتها من البداية :
تربَّت طفلة بين يدي أبوين لا يفقهون من الدِّين الكثير، بل ولا يعرفون للحجاب معنى ولا فضيلة ! أرادوا أن يعلِّموا ابنتهم فألحقوها بأقوى مدرسة، فكانت تلك المدرسة مدرسة تبشيرية؛ هدفها ردَّة هذه الأمَّة عن دينها, فلم تتعلَّم فيها عن دينها شيء، وكيف ذلك وهي بمدرسة كهذه !!
تقول: بقينا على هذا الحال في المدرسة، لا نعرف لكتاب التَّربية الإسلامية سبيلاً، حتَّى فرضَ قانون البلاد وجوبَ تدريس مادة التَّربية الإسلامية بكلِّ المدارس مهما كان دين إدارتها ...فاستبشرتُ خيراً، ولكن كان كيدهن عظيماً، فقد أحضرن مدرِّسة للمادة لا تزيد الطَّالباتِ بدينهن إلاَّ كُرها وبُعداً، فتشرح لهنَّ الدَّرس ثمَّ تقول: انظرن إلى تعصّب الإسلام وتقييده للحرّيات، انظرن إلى همجيته ورجعيته، وما إلى ذلك !!
تقول: بقيت في هذه المدرسة حتَّى أنهيتُ الثانوية العامة، وقد كنت متميّزة، فحصلت على بعثة دراسية في جامعة أمريكية خارج البلاد، فوجدت فيها فرصة لا تعوَّض، ولكن في المدَّة نفسها، تقدَّم لي شاب لا أدري كيف هوى له قلبي، فاخترت الزَّواج منه على أن أخرج لأكمل دراستي.
بدأت حياتي معه، وأنا أحبّه حبّاً لا يطيقه قلب، وكان هو كذلك، وكنت لا أرتدي الحجاب، رغم أنَّه كان صاحب خلق يصلِّي ويصوم، ولكنَّه لم يأمرني بارتداء الحجاب، ذالك أنَّه أرادني أن أرتديه بقناعتي، رغم أني الآن أدرك أن ذلك ليس بصواب!!
استمرت حياتي معه بحبٍّ وهناء منقطع النَّظير، وقد حصل في بداية زواجنا على عمل في بلاد الحرمين، التي تقتضي أن ألبس الشال والعباءة، وفعلاً لبستها فقط من أجل نظام تلك الدَّولة، وكنت أخلعهما بأية فرصة سانحة !!!
أنجبت أطفالاً ستة، وحياتنا لا ينغصّها شيء، حتَّى ونحن في طريق عودتنا إلى بلادنا برّاً، توقفنا على حادث مؤسف؛ رأيت فيه أشلاءَ الأطفال متناثرة، وفي تلك اللَّحظة، قلت له: لن أعود وأولادي إلى هذه البلاد مرَّة أخرى !!
ونزل عند رغبتي قائلاً : حسناً، سأبقى أنا الفترة القادمة بمفردي، حتَّى نؤمِّن لأطفالنا بيتاً وعيشاً كريماً، ولن تطول تلك الفترة، إن شاء الله، فوافقته على مضض ..
تقول: وفعلاً كان ذلك، واستمر على هذه الحال يسافر ويعود إلينا في كلِّ عطلة حتَّى في ذات المرَّات التي ودَّعناه فيها وأولادي وداعاً حارّاً، ثم همَّ بالرَّحيل ليلحق به ابني الصَّغير الذي لم يتجاوز السنوات الأربع يتوسَّل إليه أن لا يسافر، فيقول له الأب: أعدك يا ولدي، أن تكون هذه الأخيرة، وفعلاً كانت الأخيرة، ولكن بطريقة أخرى ... ليسافر حتَّى وهو في الطَّريق يحصل معه حادث يتوفّى على إثره، ويعود من يومه نفسه إلينا ولكن مكفناً !
تقول: لم أستوعب الأمر حينها بأنِّي لم أبلغ 35 من عمري، وأولادي أكبرهم 15 وأصغرهم 4 سنوات .أأصبحت أرملة بهذه السّرعة ؟ أتيتَّم أطفالي بهذا العمر ؟!
تقول: وبقيت أبكي عليه لا تجف لي دمعة 8 سنوات، لا أفتر فيها أبداً، وفي كلِّ يوم أخرج رسائله وملابسه، لأبكي وأبكي وأبكي حتَّى انهار من شدَّة البكاء ..
ما كنت حينها أريد الخروج من البيت خشية أن يُعجب بي أحدُهم فيخطبني؛ حيث إني امرأة جميلة، وما كان ذلك إلاَّ وفاءً لزوجي وحبّاً لأولادي الذين تعهَّدت أن أحسن تربيتهم ..كان طيفه لا يفارقني في منامي وفي يقظتي، حتى إنِّي كنت أغار عليه وهو في قبره إن حلمت بوجوده مع امرأة غيري..
ومضت تلك السَّنوات لم أزدد فيها إلاَّ عجزاً ومرضاً من كثرة بكائي، حتَّى استيقظت على نفسي في لحظة، ولا أدري ما الذي أيقظني، وبدأت أسأل نفسي :
ما جدوى ذاك البكاء أوَ سيعيده ؟؟
وما جدوى ذاك الحزن الذي أجرّعه لنفسي أوَ سيحيه ؟
لقد أصبحت حياتي نَكِدَة تَعِيسَة، فبدأت أبحث عن مخرج حتَّى قرأت في كتاب الله فوجدت لذلك ارتياحاً، ففكرت في الأمر مليّاً، وسألت نفسي؛ ماذا قدَّمت لزوجي في قبره ؟ فقلت لنفسي: إن كنت تحبّينه حقّاً، فاصنعي له شيئاً يفيده في آخرته، فما وجدت غير تعلّم القرآن وحفظه منفذاً إلى ذلك وسبيلاً، فعكفت على تعلّمه في حلقات العلم، وقد وجدت في ذلك صعوبة بالغة، حيث إنَّني قد بلغت أواخر الأربعين، وفعلاً أنهيت تعلّم قراءته وحصلت على رواية حفص عن طريق الشَّاطبية في سنوات خمس، وبدأت بعد ذلك بحفظ القرآن وقد أنهيت حفظه وعمري يناهز الـ58 !!!
تراجعه في كلِّ ثلاثة أيام، بل وفعلت أكثر من ذلك، فقد قرأت تفسيره من أحد المراجع، وتهم بقراءة مرجع آخر للتفسير، ولم تقف عند هذا الحد، فقد نذرت ما تبقى من عمرها لتعليم القرآن وتعلّم باقي الطرق وما أمكن من الرِّوايات، وفتحت بيتها منارةً له يرفدها كلّ محبّ ومقبل ..
تقول: وربِّي، إنِّي لنادمة على كلِّ لحظةٍ ضيَّعتها في البكاء بعيداً عن هذا الكتاب العظيم ..حيث إنِّي كنت إنسانة تعيسة، ولم أجد سعادتي إلاَّ هنا في التَّحليق مع آيات الله وكلماته .
وهذه رسالتي يا أخواتي لكلِّ من قال: إنَّ الوقت قد فات لتحفظ القرآن ..وهي رسالة لكلِّ من تبحث عن سرِّ السَّعادة ..ولكن اعلمي أنَّك إن عزمتِ الأمر على المضي في هذا الطريق فلن يكون محفوفاً بالورود، لأنَّ الله حينئذٍ سيمحصكِ ويمحصكِ حتّى يعلم صدق إرادتك وعزيمتك، واعلمي أنَّك إن صدقتِ الله فلا بدَّ أن يصدقك ...
فلتصرخيها أخيتي بعد ذلك صرخة تدوِّي في أرجاء السَّماء .. ها قد وجدت سرَّ سعادتي ... بحفظ كتابي ربّي سبحانه.