الرِّحلة في طلب الحديث سلوك أهل العلم

الرئيسية » بصائر نبوية » الرِّحلة في طلب الحديث سلوك أهل العلم

إنَّ الإنسان مهما أوتي من علم ومعرفة، فلا بد له من المزيد، قال الله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}، ويدلُّ على ذلك طلب الله سبحانه من نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتضرَّع إليه بطلب الزِّيادة من العلم، فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}.
ولا شكَّ أنَّ الاهتمام بالعلم والتخصَّص في فروعه المتنوّعة فرض كفاية على  أفراد الأمَّة الإسلامية،  إذا قام به البعض سقطت الفرضية على الجميع، وهذا الذي عناه المولى عزَّ وجل في قوله :{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. (التوبة:122).  قال بعضُ العلماء: هذه الآية في طلب العلم، ومعناها : أنَّه لا تجب الرِّحلة في طلب العلم على الجميع، بل على البعض لأنَّه فرض كفاية {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} تحضيضٌ على نفر بعض المؤمنين لطلب العلم، وقوله تعالى : {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} فالضَّمير في {يتفقهوا} للفرقة التي تنفر؛ أي: ترحل، وكذلك الضَّمير في {ينذروا} وفي {رجعوا} : أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرِّحلة.

فالرّحلة في طلب العلم كانت دَيدَن الأنبياء والمرسلين، فهذا نبيُّ الله موسى عليه السَّلام تجشَّم الصِّعاب والمتاعب، لكي يلتقي الرَّجل الصَّالح؛ لينتفع بعلمه، وصمَّم على ذلك مهما كانت العقبات، بدليل قوله تعالى  حكاية عنه: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال الإمام القرطبي:  (في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصَّاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقطارهم). وكان هذا دأب السّلف الصَّالح على مرّ العصور، فحصلوا على العلم النَّافع، ورسخت أقدامهم في العلوم والمعارف، ونالوا خير الذكر وعظيم الأجر والفضل.
ومن العلوم التي سَعَى  إليها العلماءُ والفضلاءُ والصَّالحون، وارتحلوا لطلبها وبذلوا في سبيلها الجهد والمَال والوَقت، علم الحديث النَّبوي الشريف، أخذاً وتلقياً وتحديثاً وكتابة،  وبحثاً عن أسانيده، بل عن إسناد الحديث الواحد امتثالاً لأمر الله تعالى، وتحقيقاً لما حثَّ عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
(من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصَّاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وغن بعدت أقطارهم) . الإمام القرطبي
أسباب السعي في طلب الحديث ..

1-تحصيل الحديث: وذلك من أهم أسباب الرِّحلة خصوصاً في العهود الأولى للإسلام، ومنه جاءت رحلات الصَّحابة والتابعين وتفرّقهم في الأمصار.
2-التثبت من الحديث: وهو مقصد الصَّحابة رضي اللَّه عنهم في رحلاتهم والتابعين، وقد يكون عند المحدّث أحاديث يرويها فإذا رحل سمع أحاديثه بأسانيد تلتقي مع إسناده وتتفق مع رواياته.
3- طلب العلو في السند: ومعنى العلو قلة الوسائط في سند الحديث مع اتصال السند، وكيفية حصول العلو بأن يسمع المحدث حديثاً من راوٍ عن شيخ موجود، فيذهب المحدث إلى الشيخ ويسمعه منه مشافهة فيقل بذلك عدد وسائط النقل في السند.
4-البحث عن أحوال الرُّواة: معرفة أداء الرَّاوي للحديث هو المقصد الأسمى الذي عليه مدار هذا العلم، ومن أجله بذلت كل الجهود، ووضعت قواعد النَّقد فكان لا بد من تقصي أحوال الرواة وأخبارهم حتَّى يتميَّز المقبول من المردود.
5-مذاكرة العلماء في نقد الأحاديث وعللها: وهو فن جليل يحتاج إلى عمق النظر، وتقصي الأسانيد والرّوايات وذلك لا يتم إلاَّ بالمجالسة والمدارسة، ولقاء أساتذة هذا الفن وأساطينه.
وفي هذا المجال ألَّف الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى سنة ( كتابه المشهور : ((الرِّحلة في طلب الحديث))، نقتبس منه أخبار من ارتحلوا في طلب الحديث النبوي، لنورد  نماذج مضيئة؛ منها ..

السَّفر للقاهرة للتأكّد من صحَّة حديث ..

أخذ أبو أيوب الأنصاري راحلته، وذهب إلى مصر حتَّى أتى إلى الفسطاط، وجد محمَّدَ بن مسلمة؛ وهو الأمير عليهم، قال: أين بيت عقبة ؟ قال: ما الذي جاء بك أزائراً أم لحاجة؟ قال: جئت لحاجة عنده، أرسل معي من يدلني على بيته، فذهب إليه فرأى عقبة -وهذا أنصاري، وأبو أيوب أنصاري- فقال له: إنَّ أبا أيوب الأنصاري في الباب، فأسرع إليه ولقيه وعانقه، وقال له: ما أتى بك يا أبا أيوب ؟ قال: (جئت لأسمع منك حديثاً، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ أنا وأنت، فأردت أن أتثبت منه).

رحلة إلى الشَّام لسَماع حديث ..

قال جابرُ بن عبد الله : بلغني حديث عن رجلٍ سمعه من النَّبي صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، فاشتريت بعيراً، ثمَّ شدَّدت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا حتَّى قدمت الشَّام، فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فقلت للبوَّاب: قل له: جابر على الباب، فقال : ابن عبد الله ؟ قلت : نعم، فخرج إلي يطأ ثوبه فاعتنقني وعانقته، فقلت: (حديثًاً بلغني عنك أنَّك سمعته من رسول الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم في القصاص، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه منك).

رحلة إلى بلاد الشَّام و مصر والحجاز ..

صاحبها الإمام أبو حاتم محمَّد بن إدريس بن منذر الحنظلي الرَّازي، المتوفى سنة (227هـ)، يروي عنه ابنه عبد الرَّحمن في كتابه (تقدمة الجرح والتعديل)، فيقول: سمعت أبي يقول : (أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي حتَّى زاد على ألف فرسخ تركته، أما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فمالا أحصي كم مرَّة، ومن مكة إلى المدينة مرَّات كثيرة، وخرجت من البحرين من قرب مدينة صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرَّملة ماشياً، ومن الرَّملة إلى بيت المقدس، ومن الرَّملة إلى عسقلان، ومن الرَّملة إلى طبرية ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان، فسمعت، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرَّقة، ومن الرَّقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشَّام من واسط).
( حديث بلغني  عنك أنّك سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم في القصاص، فخشيت أن أموت  أو تموت قبل أن أسمعه منك). الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه
دُرر من الأقوال ..

قال أبو الدَّرداء رضي الله عنه : (لو أعيتني آية من كتاب الله، فلم أجد أحداً يفتحها عليَّ إلاَّ رجل ببرك الغماد لرحلت إليه).
قال الشَّعْبِيِّ:  (ما علمت أحدًا من النَّاس كان أطلب للعلم في أُفُقٍ من الآفَاق من مَسرُوق).
عن عليّ بن المديني، قال : قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : (بنفي الاعتماد، والسَّير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب).
الإمام الحافظ العلم عليّ بن المديني شيخ الإمام البخاري، قال : (حججت حجة وليس لي همّة إلاَّ أن أسمع).

مراجع للاستزادة :

-الرّحلة في طلب الحديث، للحافظ الخطيب البغدادي.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

alt

التحذير من علماء السُّوء !

عنوان هذا الموضوع هو اسم لكتاب ألفه الحافظ أبو الفتيان الدّهستاني، الرَّوَّاسيّ؛  عمر بن محمد …