الوسطيَّة .. ماذا تعني في الإسلام ؟

الرئيسية » بصائر الفكر » الوسطيَّة .. ماذا تعني في الإسلام ؟
alt
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً﴾ [سورة البقرة: الآية 143].. لرُبَّما يُكرِّر العديد من النَّاس، عوامٍّ وخواصٍّ على حدٍ سواء، هذه الآية القرآنيَّة الكريمة، ولكن من دون إدراك المغازي والأهداف الأساسيَّة التي من أجلها جعل الله سبحانه وتعالى، من أُمَّة مُحمَّدٍ "صلَّى عليه وسلَّم" أُمَّةً وسطًا، ولا ماهيَّة المسؤوليَّات التي تلقيها هذه السِّمة التي لم يجعلها الله عزَّ وجلَّ لأُمَّةٍ من قبل.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ الوسطيَّة كمعنىً في حدِّ ذاتها أوسع كثيرًا من مُجرَّد الحديث عن سمة الاعتدال التي أوَّل ما يتبادر إلى الذِّهنِ عند الحديث عن فكرة الوسطيَّة؛ حيث المعنى أكثر عُمقًا كثيرًا.
فالوَسَط لغةً يعني المستوى ما بيْن طَرَفَي الشَّيء، أما على مستوى الاصطلاح، فإنَّ الوسطيَّة تعني الخيريَّة والأفضليَّة، بالإضافة إلى الاعتدال، فوسط الشَّيء هو خيره؛ فمن بين الصِّفات التي جاءت في رسول الله "صلَّى الله عليه وسلَّم"، أنَّه كان "أوسط قومه" أي خَيْرِهِم.
وفي المعنى الشَّرعيِّ المُباشر للمصطلح، فإنَّ المقصِد من الوسطيَّة أَنْ يلتزم المسلم بالاعتدال في قَوْلِه وفِعْلِه، فلا يغلو أو يتطرَّف ولا يُقصِّر ويهمل، والوسطيَّة أو التَّوسُّط في كلِّ أمور الحياة من تصوُّراتٍ وأفكارٍ ومواقفَ فعليَّةٍ، ليستْ مجرَّد وجهة نظرٍ في الأمر الذي نتعامل معه، فهي الصَّواب؛ باعتبار أنَّها جاءت في القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، بشكل لا لبس فيه، كسمةٍ من سمات أُمَّة الإسلام، وأنَّ هذه السِّمَة موضوعةٌ فيها لأجل تحقيق رسالةٍ ساميةٍ، كما أوضحتْ الآية الكريمة.
وفي السِّياق، ترتبط الوسطيَّة بسمةٍ أخرى أو بُسنَّةٍ أخرى من سنن الله تعالى التي وضعها في الإسلام، وهي أنَّ الإسلام كما هو دينٌ وسطيٌّ، فهو دينٌ حنيفٌ أيضًا، والحنيف هو أحد المعاني القريبة من الوسطيَّة، أو تعدُّ الوجه الآخر لها، لغةً واصطلاحًا، فالشَّيء الحنيف لغةً يعني الشَّيء المستقيم أو الذي يسير في اسقامةٍ، ما دام بعيدًا عن الزَّيغ والشَّطط، وفي الاصطلاح، يعني المَيْل من الضَّلال إلى الاستقامة، وهو معنىً- كما نرى- شديد القُرْبِ من الوسطيَّة.
وفي هذا يقول أيضًا الإمام القرطبي- رحمه الله- في "الجامع لأحكام القرآن": "حَنِيفاً.. مائلاً عن الأديان المكروهة إلى الحقِّ دين إبراهيم"، صلَّى الله عليه وسلَّم، بينما يقول العلامة السَّعدي رحمة الله عليه في كتابه "تيسير الكريم الرَّحمن في تفسير كلام المنان": "حنيفًا أي: مُقبلاً على اللهِ، مُعْرِضًا عمَّا سواه، قائمًا بالتَّوحيد، تاركًا للشِّرك والتَّنديد، فهذا الذي في اتِّباعه الهداية، وفي الإعراض عن ملَّته الكُفر والغواية".
ولذلك فإنَّ أُمَّة الإسلام، أُمَّةٌ وسطيَّةٌ حنيفةٌ.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [سورة النِّساء- الآية 125].
ومثلها في ذلك مثل أيِّ شيءٍ شرعه الله وجعله صراطًا لأُمَّته تمشي عليه، فإنَّ الوسطيَّة هي سُنَّة الكَون، وناموس الخَلْقِ الإلهيِّ فيه، فكلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى له ميزانه الذي لو حَادَ عنه لفَسَدَ الكون.. ﴿اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سورة الرَّعد- الآية 8]، وهي تعني أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله تعالى وفق قدرٍ معلومٍ، لا يصح معه ولا تستقيم الأمور إنْ تجاوزَ الشَّيء قَدْرَه،  سواءٌ بالغُلوِّ والزِّيادة أو بالنَّقص.
كما أنَّ الوسطيَّة هي أساس السُّلوك القَوِيم للإنسان في الحياة، فعلى سبيل المثال، وفيما يخصُّ إنفاق الإنسان في ماله وفي طعامه، قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [سورة الفُرْقان- الآية 67]، وقال عزَّ وجلَّ أيضًا: ﴿يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [سورة الأعراف- الآية 31].
وفي مواضعَ أخرى من القرآن الكريم أمر الله تعالى بالوسطيَّة في السُّلوك العام وحركته، ففي سورة لقمان، قال الله تعالى على لسان لقمان الحكيم وهو يعظً ابنه: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ (19)﴾.
أمَّا في السُّنَّة النَّبويَّة، فيقول رسول اللَّه "صلَّى الله عليه وسلَّم": "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، بِحَسْبِ ابن آدمَ لُقَيْماتٍ يُقِمْنَ صُلبه فإنْ لم يفعل فثُلُثٌ لطعامه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنَفَسِه" [رواه التِّرمذيُّ].
كما أنَّ الوسطيَّة مطلوبةٌ ليست سلوكًا فحسب، بل هي مطلوبةٌ حتَّى في العبادة، وهو ما يؤكِّد على ضرورتها في توازُن صيرورة حياة الإنسان، على أهمِّيَّة المكانة التي وضعها الإسلام للعبادات، وعلى رأسها الصَّلاة.. قال تعالى: وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [سورة الإسراء: الآية 110].
وفي الهديِ النبويِّ ما يفيد ذلك أيضًا، فعن جابر بن سَمُرَةَ (رضي الله عنه وأرضاه) قال: "كنت أُصَلِّي مع رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم فكانت صلاته قَصْدًا وَخُطْبَته قَصْدًا".
وعن أنسٍ بن مالك (رضي الله عنه وأرضاه)، قال: جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، يسألون عن عبادة النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، فلمَّا أُخبِروا كأنَّهم تَّقالوها، فقالوا: وأين نحنُ من النَّبيِّ "صلَّى الله عليه وسلَّم"، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟، قال أحدهم: أما أنا فإنِّي أُصلِّي الَّليل أبدًا، وقال آخرَ: أنا أصوم الدَّهر ولا أُفطر، وقال آخرَ: أنا أعتزل النِّساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله "صلَّى الله عليه وسلَّم" إليهم، فقال: "أنتم الَّذين قُلتم كذا وكذا أما والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكُم له لكنِّي أصوم وأُفطر وأُصلِّي وأرقُد وأتزوَّج النِّساء فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي".
في هذا يقول المُفكِّر الإسلاميُّ الدُّكتور محمد عمارة، عن الوسطيَّة: "إنَّها الوسطيَّة الجامعة، التي تجمع بين عناصر الحقِّ والعدل من الأقطاب المُتقابِلة فتكوِّنُ موقفًا جديدًا مُغايرًا للقطبَيْن المختلفَيْن، ولكن المُغايَرة ليست تامَّةً".
ويقول عمارة : إنَّ العقلانيَّة الإسلاميَّة تجمع بين العقل والنَّقل، والإيمانُ الإسلاميُّ يجمع بين الإيمان بعالِم الغَيْبِ والإيمان بعالِم الشَّهادة، والوسطيَّة الإسلاميَّة تعني ضرورة وضوح الرُّؤية باعتبار ذلك خصيصةٍ مُهمَّةٍ من خصائص الأُمَّة الإسلاميَّة والفكر الإسلاميِّ، بل هي منظارٌ للرُّؤية، وبدونه لا يمكن أنْ نُبصر حقيقةَ الإسلام، وكأنَّها العدسة الَّلامَّة للنِّظام الإسلاميِّ والفكر الإسلاميِّ!

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …