تشكِّل الرُّموز أيًّا كان ميدانها إشكالية فيمن يتطلعون إليها، ويحاولون الاقتداء بها، فهي في إيجابيتها أو سلبيتها تنزع إلى التطرف أحيانا: كمال أو مثالية في الإيجاب، أو إمعان في السلبية و الخطأ، وهذه التَّجاذبات المتطرّفة، على مبدأ أن تكون أو لا تكون، تجعل من الصُّعوبة بمكان على البشر الاقتداء بها في نسق لا يحتمل الخلل أو الانزياح، ذلك أنَّ طبيعة الإنسان خطَّاء بطبعه، شديد التقلب والفتور حتَّى في نوازع الإيمان وهي أكمل المشاعر، فكيف بغيرها؟؟
و من هذه الرموز رموز الحب الذين عرفناهم؛ كعرب شعراء طوَّفوا بنا في حدائق القلب وخلجات النفس وحركات الجوارح، وجعلوها كلَّها دلائل على المحبَّة، فقال الشاعر:
لي في محبتكم شهود أربع وشهود كلّ قضية اثنان
خفقان قلبي واضطراب جوارحي ونحول جسمي وانعقاد لساني
وقد نظم هؤلاء الشعراء بقلب وخيال المبدع أكثر من واقع الإنسان، فلم يكتمل الحب لأيّ من أساطير الحب العذري، بل كان سبباً في هلاك بعضهم.
وقد شكَّلت هذه الخلفية الثقافية جزءاً من تصوّرنا كعرب لطبيعة الحب، وكيف يتصرّف المحبُّون وكيف يعيشون، وماذا يدلّ على المحب، وكُتب وما زال يُكتب في الحب الكثير الكثير، ولو أدخلنا كلمة الحب أو أحد مرادفاتها في محرك البحث لخرجنا بنتائج مليونية، وكل له نظرية وإناء يدلي به في هذا المحيط الرحب اللامنتهي، وأصبح الحب ظاهرة غير مجرّدة، بل تحكمها قوانين العصر من أحوال مادية واجتماعية، وأصبح كل يعرف ويُمارس الحب على هواه، وكل يغنِّي على ليلاه، وتعدَّدت المدارس والممارسات، فأصبح قيس أقياساً، و صارت ليلى ليلاوات.
فربَّما لو ظفر قيس بليلى لما بقي حبّهما متوهجا ومتقداً كما خلده الشّعر.. وقد حاولت ممَّا أعرف من التجارب والقصص أن أبحث عن صفات ليلى وقيس، وعن شكل للحب الحقيقي الصَّادق، فكان بحثاً زادني حيرة وبصيرة بتقلب وزئبقية الحب وتشكله بأشكال مختلفة فكانت هذه المحطات:
المحطَّة الأولى: حبٌّ منذ الميلاد
بشنبات يقف عليها الصقر أصدر الأخ الأكبر حسن عثمان من قرية بيت صفافا قضاء القدس تهديداً؛ أنَّ الذي سيقترب من بنات أخيه عيسى فليحمل كفنه معه، وأن ضفائر بنات أخيه لن تُحلّ لرجال غير أبنائه، و لم يكن أبو البنات عيسى ليرفض أمر أخيه الأكبر احتراماً و هيبةً له، وتأميناً لمستقبل بناته، وهكذا نشأ مصطفى ومريم، داود وفاطمة على هذا الاتفاق (أو الإجبار) الأبوي منذ نعومة أظفار أولادهم.
ماذا حرَّك العم نحو بنات أخيه؟ هل كان الحب وصلة الرَّحم؟ هل كانت ثقافة زيتنا في دقيقنا والقريب أولى من الغريب؟ هل هي نوازع السيطرة والاستحواذ؟ هل كان زواج الأقارب عندهم أحفظ للقربى والعرض وآمن للمستقبل؟ أثر التمنع والحياء والعفَّة في ذلك الزَّمان كان أقوى من النار في إلهاب المشاعر
الخلاصة أنَّ جدي داود لم يعرف من صور الحب وآهاته وتجاربه سوى جدتي فاطمة وكذلك الأمر بالنسبة لها، كانت بالنسبة له كشيء من الفطرة والطبيعة، لعب معها ألعاب الأطفال وهما صغار، وزرع و رعى وحصد معها، ولما شبَّ كان يراها يومياً كما يرى أخواته فالباب قرب الباب، ولمَّا حان الآوان ذهب ليشتغل في المدن المجاورة ليجمع مهرها وكان قرطا على شكل وردة فل، ومئتي دينار فلسطيني، وفي إحدى رحلاته حاول جدي أن يمارس دور الخطيب المحب، فاشترى لها علبة حلوى صناعة انجليزية، وأعطاها لها عن طريق عمّه، فخجلت جدّتي أمام أهلها وأعطتها لإخوتها الصّغار، حاول جدّي أن يحادثها ذات مرَّة، فنهرته فلحقها فضربته بزجاجة، وكانت نتيجة حادث المحبَّة هذا سبعة غرز في قدم جدي، ولكن أثر التمنع والحياء والعفَّة في ذلك الزَّمان كان أقوى من النار في إلهاب المشاعر، لم يكن بين جدي و جدتي رسائل مكتوبة، فجدي كان مسموح له أن يتعلم حتى أنهى المترك، بينما جدتي كسرت أمها لوحها حتى لا تتعلم و تكتب الرّسائل للشباب على حدِّ قولها، هكذا كانت الصورة عندهم أنَّ المرأة قد تنحرف لو تعلمت، و لكن الرَّجال محصنين من ذلك ولا يشكلون مصدراً للعار مهما فعلوا، تزوّج جدي وجدتي و جاءت أمي وأخوالي ثمانية كخرز العقد يتلو بعضهم بعضا، هذا غير من ماتوا من السقط، وفي الثانية والثلاثين كانت جدتي قد أنهت مهمتها الإنجابية.
كان جدّي في الواحد والعشرين من عمره عندما جاءه أول ولدين، وكان يعيل أسرة ممتدة، رجل بطول وعرض وعائلة في سن يعتبر الآن نهاية مرحلة المراهقة وفترة سماح من تحمل المسؤوليات
ويبقى السؤال: هل عرفوا الحب في زمانهم، أو ماذا كانت طبيعة الحب في زمانهم وكثير منهم لم يملك حرية اختيار من سيحب؟ بالتأكيد هو لم يكن حب قيس و ليلى، ولكنَّه كان مودة و عشرة و حياة مشتركة، ورعاية وأولاد.
لم يكن لدى جدَّتي فرصة لتعيش حياة الدلال والغنج، فما هي إلاَّ أعوام قليلة حتى كانت تركض وراء جدي في رحلة الهروب الكبير بعد نكبة فلسطين، لا تدري هل تحمل أولادها أم جهاز عرسها الذي لم تلبسه بعد، أم شيئا من قوت أسرتها الصغيرة!! في العقد الثاني من عمرها وفي رقبتها صغيرين كانت بعيدة كل البعد عن صورة ليلى، وهي تجري بولديها في محاولة مستميتة للحفاظ على حياتهم جميعا، الرصاص الذي لم يُطلق في عرسها فرحا و ابتهاجا سقط على رأسها مثل زخات المطر، وهي تحاول تفاديه في حضن مغارة أو وراء جبل، "تقبرني ابن عمي" كادت أن تأخذ شكلا ثانيا لولا لطف الله، وهي تتبع بجدي ابن عمها، شكلا لا علاقة له بالغزل والغنج الشامي.
كبرت بينهما لأعرف أنَّ الحبَّ أشكال متعدّدة، قيس وليلى صورته الخياليَّة، فربَّما لو ظفر قيس بليلى لما بقي حبّهما متوهجا ومتقداً كما خلده الشّعر، لو طُرد قيس من بلده وشُرد لربَّما نضج قلبه وعقله وشعره عن ذاتية أنا وليلى ومن وراءنا الطوفان، لو تزوجا لربَّما كان زواجهما مقبرة الحب العذري وحياة الحب الأسري الواقعي الذي يتوسع عنهما لأولاد وعائلة ممتدة و مجتمع.