لا زلت أتذكَّر وصايا قيلت لي وأنا يافعٌ مُريدٌ في بداية الطريق.. وكلّما تذكرتها حمدت الله تعالى أن وفقني المولى سبحانه للالتزام بهذا الدّين العظيم فكراً وسلوكاً، وأنعم عليَّ بأن أُسديت إليَّ نصائح ووصايا توجيهية كانت بمنزلة البوصلة، وفي الوقت نفسه، لا تزال نفسي ترنو إلى آفاق أرحب، ورحاب أوسع تعيش خلالها معانيَ الإسلام السَّمحة، وتتفيَّأ ظلال مبادئه وتصوّراته ومناهجه القائمة على الاعتدال والوسطية..
لم يُطِل شيخي حينها في نصحي.. ولم أشعر بالملل والضَّجر من شرحه لكلماتها القليلة، ومعانيها العميقة، ودلالاتها المؤثرة في النفس والعقل.. فهي تجمع في ثناياها معاني التّصوف الزَّاهد.. والفكر النَّاصع.. والعمل الصَّالح..
ولا شكَّ أنَّ شخصيته القوّية، فهو إذا قال صدقك القول وأوفى، وإذا نصحك أبلغ في النّصح وأخلص، وإذا وَعَدَك لا يخلف المواعيد.. فهو الشيخ المؤمن.. الثابت.. الصَّامد.. لا تغريه المناصب.. ولا تلهيه السَّفاسف والعوائد، ولا ترهبه العواصف والقواصم – كان لها عظيم الأثر في نفسي ومسيرتي في طريق الدَّعوة إلى الله سبحانه..
لأجل ذلك كلّه، فقد حفرت كلماتُه وجملُ نصائحه في عقلي الباطن، وغرست حروفها في سويداء قلبي.. لم تكن هذه الكلمات من بنات فكره ولا من تأليفه.. ولم ينسبها إليه مدّعياً اختراعها ولا إنتاجها.. فهو دائماً وأبداً لم يكن من حزب لابسي ثوبي الزّور..
وأنا لا زلت بعون الله وفضله في الطريق سائراً، لا أدّخر جهداً ولا وقتاً في سبيل ذلك، وأحسب أنِّي صامدٌ ثابتٌ..
أتذكّر هذه الكلمات، فلا تزيدني من الله إلاَّ قرباً وحبّاً، ومن الدَّعوة إلاَّ عملاً وإخلاصاً، ومن إخواني إلاَّ ألفة وصحبة، ومن الدّعاة الصّادقين إلاَّ سماعاً ونُصرة..
إنَّها نصائح مجرّب خبير، ينقلها من دفاتر الحكم والخبرة والممارسة، نزّفها إليكم اليوم.. لعلّها تكون لنا ولكم خيرَ معينٍ والنَّاصحَ الأمينَ في سَيرنا..
إنَّها نصائح غالية في جمل ثلاثة..
أولها: لا تجعل شدَّة القُرب حجاباً..
وثانيها: لا تمكّن زائغ القلب من أذنيك..
وثالثها: ومتلفّتٌ لا يصل..
أمَّا الجملة الأولى.. ففي علاقة العبد بربّه، إذ القلبُ الموصول بالله سبحانه وتعالى ساكنٌ إليه، مطمئن بذكره، ملتزم ببابه في السَّراء والضَّراء، وكلّما ازداد قرباً منه ازدادت الطَّاعات والأعمال الصَّالحات، وحُصِّنت القلوب والعقول من الزّيغ والأهواء، وعندما يشعر المرءُ بالفتور واليأس والإحباط، فما عليه إلاَّ اللّجوء الخالص إليه، فعنده وحده لا شريك له تحلُّ العُقَد، وتفرج الكروب، وتجدّد الهمم والعزائم، وتصفَّى النيّات، وتجلى القلوب..
أمَّا الجملة الثانية.. ففي علاقة العبد بمحيطه القريب أو البعيد، في أسرته ومجتمعه، أو في مكان عمله ودعوته، فلا تخلو تلكم الأماكن والمحيطات من أجواء آسنة لاحتوائها على أصحاب أهواء زاغت قلوبهم، فتراهم يتربصون بركّاب السفينة تارة بالتشويه والإثارة، وتارة ببث الإشاعات والتلفيق والأخبار المغرضة للنيل من سمعة قائد أو ربّان، كي تشتّت الجهود وتبعثر الأوراق فتضيع البوصلة، ولنجاتنا ونجاة الجميع، ولصفائنا وصفاء المحيط من كلِّ نجس ورجس، كان عدم الإصغاء وتمكين أسماعنا لذوي النفوس المريضة هو العلاج لذلك الدَّاء، فلا ينبغي أن نقيم لأحاديثهم وزناً، لأنَّ هذا المركب الإيماني سينفي خبثه، بعون الله أولاً، وحنكة قائد وذكاء راكب.
أمَّا الجملة الثالثة.. ففي علاقة العبد مع نفسه، وكيف يسوسها بالحكمة ويصبغها بالإقدام، وينوّر لها الطريق ببصائر التشريع الرَّباني والهدي النبوي وسير السّلف الصَّالح رضوان الله عليهم، فيتحصَّن من كلِّ المعوّقات والمثبطات ودعوات الرّكون والخنوع، فلا يركن إليها، بل يظل متمسكاً بحبل الله المتين غير ملتفت إلى كلِّ ناعق أو ساخر أو جاحد.. فالزَّمن جزءٌ من العلاج، فإذا ضاع في كثرة الالتفات والبحث في دائرة الشكوك والظنون، بَعُدت الشُّقة بيننا وبين العلاج النَّاجع، وأهدرت أوقات الدَّعوة الثمينة في القيل والقال، وفيما لا ينبني على عمل.. وفي المقابل يبقى النَّقد البنًّاء والنّصح الهادف حاديَ الطَّريق الصّادق وأنشودة الثبات عليه.