إنَّ حقيقة الموت هي قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود؛ الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان البغاة والمتألهين.. إنَّها الحقيقة التي تمدّ هذا الوجود المائج بغاشية الانتهاء والفناء، وتصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة العبودية والذل لقاهر السَّماوات والأرض، إنَّها الحقيقة التي تعلن على مدى الزَّمان والمكان، وفي أذن كل سامع وعقل كل مفكر : أن لا ألوهية إلاَّ لذاك الذي تفرَّد بالبقاء، فهو الذي لا مردَّ لقضائه ولا حدود لسلطانه، ولا مخرج عن حكمه، ولا غالب على أمره، قال الله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. (الرَّحمن:26-27).
إنَّ حقيقة الموت هي قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود؛ الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان البغاة والمتألهين إنَّها الموت التي جعلها المولى سبحانه وتعالى ميزاناً للبلاء الذي يمحّص به الخلق، قال الله تعالى :{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}. (الملك:2).
ولهذه الحقيقية الإيمانية أمورٌ تحيط بها ينبغي الإيمان بها والتسليم لها، لكن لا مجال للعلم بها إلاَّ عن طريق الخبر اليقيني الوارد في شأنها، وهي أمور غيبية، سنتناولها بالشَّرح والتفصيل والتَّدليل في سلسلة من حلقات ثلاث :
الأولى : عن ملك الموت وقبض الأرواح.
الثانية : عن سؤال القبر.
الثالثة : عن عذاب القبر ونعيمه. ولنبدأ بعون الله وفضله بالحقيقة الأولى ..
(مَلَكُ الموت وقبض الأرواح)
مَنْ يقبض الأرواح ؟
لا ريبَ ولا شكَّ أنَّ المولى سبحانه وتعالى هو المُحيي والمُميت، فهو الذي يتوفى الأنفس ويميتها عندما يشاء؛ وفي بيان ذلك يقول الله عزَّ وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. (الزمر:42). { يَتَوَفَّى} من توفّى العدد والشَّيء إذا استوفاه وقبضه جميعاً. يقال : توفاه الله أي: استوفى روحه ثمَّ قبضه، وتوفيت مالي من فلان أي: استوفيته. ولحكمة يعلمها الله تعالى أسند قبض الأرواح لملك يأتمر بأمره، وقد وردت آيات كريمة أسند الله فيها هذا الفعل تارة لنفسه، وتارة لملك الموت، وتارة أخرى إلى الملائكة، وقد بيّن العلماء أنَّه لا تعارض بينها، فقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة:11)، فأسنده في هذه الآية إلى ملك الموت لأنَّه هو المأمور بقبض الأرواح، وقوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}. (الزمر:42)، فأسنده في هذه الآية إلى نفسه، لأنه لا يموت أحدٌ إلاَّ بمشيئته سبحانه وتعالى، وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ}، وقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ }، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات، فقد أسنده إلى الملائكة؛ لأنَّ لملك الموت أعواناً من الملائكة ينزعون الرُّوح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت، كما قاله بعضُ العلماء، بقولهم : (إنَّ الموكل بقبض الأرواح ملك واحد، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم، فيأخذها ملك الموت، أو يعينونه إعانة غير ذلك).
وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور: أنَّ النبيّ صلَّى الله عليه وسلم ذكر فيه: ((أنَّ ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة فصعدوا بها إلى السَّماء))، وقد بيَّن فيه صلَّى الله عليه وسلّم ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن، وحديث البراء المذكور صحَّحه غيرُ واحد، وأوضح ابن القيّم في كتاب ((الرُّوح)) بطلان تضعيف ابن حزم له.
وقد سمّي ملك الموت المكلّف بقبض الأرواح (عزرائيل) في بعض الآثار المروّية، قال الإمام القرطبي في تفسيره: (معناه عبد الله)، لكنَّ بعضَ العلماء حكم عليها بالضَّعف، وعلَّل ذلك بوجوب التأدّب بأدب القرآن، إذ سمَّاه ملك الموت، فعلينا أن نسمّيَه بتسميته، ولا يصح تسميته بعزرائيل، لأنَّنا لن نجد نصاً واحداً صحيحاً سُمِّي فيه ملك الموت بعزرائيل. والإيمان بملك الموت فرضٌ، إذ الإيمان به إيمانٌ بالملائكة وبما ذكر الله تعالى في كتابه الكريم، قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة:11).
أصناف النَّاس في قبض الأرواح :
إنَّ من نعم الله على عباده الصَّالحين أن يختم لهم بالحسنى، وأن يجعل آخر أعمالهم أحسنها، فيأتيهم الأجل وهم على طاعة الله وامتثال أمره، وتقبض الملائكة أرواحهم طيّبين، قال الله تعالى: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . (النحل:32). قوله تعالى: { طَيِّبِينَ } أي: مؤمنين طاهرين من الشرك. قال التابعي الجليل مجاهد بن جبر: (زاكية أفعالهم وأقوالهم).
ومن النَّاس من يختم الله حياتهم بالسوء والكفر ظالمين أنفسهم، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . (النساء :97). وقال تعالى : {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}. (النَّحل:28). فقوله تعالى : { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في الكفر، ونصب على الحال أي: في حال كفرهم. وفي الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول صلَّى الله عليه وسلَّم قال : ((إنَّ الميّت تحضره الملائكة، فإذا كان الرَّجل الصَّالح قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في جسد طيّب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، يقولون ذلك حتَّى تخرج، ثمَّ يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فيقال لها ذلك حتَّى تنتهي إلى السَّماء السَّابعة. وإذا كان الرّجل السوء قيل: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فيقال ذلك حتَّى تخرج، ثمَّ يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة، فلن تفتح لك أبواب السَّماء)). (أخرجه ابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى، وأحمد في مسنده، وهو حديث صحيح على شرطي البخاري ومسلم).
نسأل الله سبحانه أن يجعل آخر أعمالنا أحسنها، وأن يختم لنا بالحسنى طيّبين طاهرين، زاكية أفعالنا وأقوالنا.
إنَّ من نعم الله على عباده الصَّالحين أن يختم لهم بالحسنى، وأن يجعل آخر أعمالهم أحسنها، فيأتيهم الأجل وهم على طاعة الله وامتثال أمره، وتقبض الملائكة أرواحهم طيّبين ،
العمل الصَّالح يُنجي ..
في الحديث الصحيح، عن حذيفة وأبي مسعود قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم : ((أنَّ رجلاً ممَّن كان قبلكم أتاه ملك الموت ليقبض نفسه، فقال له : هل عملت من خير ؟ قال : ما أعلم . قال له: انظر . قال : ما أعلم شيئاً غيرَ أنِّي كنت أبايع النَّاس وأحارفهم، فأنظر المعسر، وأتجاوز عن الموسر، فأدخله الله الجنَّة)).
دعاء ورجاء ..
ورد في كتاب الله الكريم دعوات على لسان أنبيائه ورسله والصًّالحين في كل آنٍ وحين يلجؤون فيها إلى الله بطلب الوفاة على الإسلام والخاتمة الحسنى؛ فها هو نبيُّ الله يوسف الصِّديق إذ يدعو ربَّه .. {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . (يوسف: 101). ونبي الله موسى وهارون والعصبة المؤمنة الكافرة بفرعون تدعو : {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}. (الأعراف:126). وأولو الألباب يدعون .. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}. (آل عمران:193).
مراجع للاستزادة :
-الجامع لأحكام القرآن - الإمام القرطبي.
-الرّوح - ابن قيّم الجوزية.
-الإيمان – محمَّد نعيم ياسين.
-اليوم الآخر – د. عمر سليمان الأشقر.