كان التعليم في العهد النبوي يعتمد على التلقين لا التدوين، والمشافهة لا الكتابة، واستمر الحال على ذلك مدَّة خلافة أبي بكر وعمر، ثمَّ جاءت خلافة عثمان رضي الله عنه واختلط العرب بغيرهم، واتسعت الفتوحات وكثر الداخلون في الإسلام من العجم، وظهرت بوادر الخوف من اختلاف الأمَّة في القرآن، ممَّا دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد تشاور مع الصَّحابة إلى إعادة كتابة النَّص القرآني، ونشره في الأمصار، وبهذا العمل وضع عثمان بن عفان الأساس لما سُمي لاحقاً بعلم رسم القرآن، أو الرسم العثماني.
وقام علي رضي الله عنه بنصيبه من خدمة القرآن وعلومه، حيث أمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض الأسس والقواعد التي تحفظ على الناس معرفة النطق السليم، وبذلك نشأ علم النَّحو والإعراب، لخدمة القرآن ولغته.
وقد ذَكَرت مصادر كثيرة أنَّ زياد بن أبيه المتوفى سنة (53هـ) قد طلب من أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) وضع رموز الضَّبط الدَّالة على الحركات والتنوين، فقام أبو الأسود بوضع هذه الحركات، وهذا هو الأساس لعلم الضبط (ضبط الإعراب) (1) كما قام يحيى بن يَعْمُر،(2) ونَصْر بن عاصم (ت89هـ) وقيل (90هـ) بوضع ضبط الإعجام(3) (أي: تنقيط الحروف لتمييز الحرف المعجم من الحرف المهمل).
ثمَّ تبع ذلك تقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، ووضعت علامات الأخماس والأعشار في القرآن الكريم. وأقدم كتاب وصل إلينا، وفيه بيان هذا التقسيم هو كتاب ((أعشار القرآن)) لقتادة (ت118هـ). (4)
يقول الحافظ الذهبي: (شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير؛ فصنَّف ابنُ جُرَيْجٍ التصانيفَ بمكة، ومالكٌ ( الموطأ َ) بالمدينة، والأوزاعيُّ بالشام، وابن أبي عَروبة وحَّمادُ بن سلمةَ وغيرهما بالبصرة، ومَعْمَرُ بنُ راشدٍ باليمن، وصنّف أبو حنيفةَ الفقهَ والرَّأيَ …وقبْل هذا العصر كان الأئمَّة يتكلّمون من حفظهم، أو يَرْوون العلم من صحف صحيحة غير مرتَّبة، فسهل- ولله الحمد- تناول العلم، وأخذ الحفظ يتناقص. ولله الأمر كلُّه".(5)
وقد أخذت الدراسات حول القرآن والسنة تتسع وتتفرَّع حتَّى أصبح من الضروري أن يُعنى علماء المسلمين في كلّ إقليم بتصنيف الكتب ليحفظوا للأجيال القادمة ما تلقوه وما علموه.
يقول الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه ((التفسير والمفسرون)): (بعد عصر الصحابة والتابعين، خطا التفسير خطوة ثانية، وذلك حيث ابتدأ التدوين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أبوابه متنوعة، وكان التفسير باباً من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورةً سورة وآية آية، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار ليجمع الحديث، فجمع بجوار ذلك ما روي من تفسير منسوب إلى النبي أو إلى الصحابة أو إلى التابعين، من هؤلاء:
1- شعبة بن الحجاج، (ت160هـ).
2- وكيع بن الجراح، (ت197هـ).
3- سفيان بن عيينة، (ت198هـ).
4- عبد الرزاق بن همام، (ت211هـ).
وغير ذلك كثير، وكان جمعهم للتفسير جمعاً لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعاً للتفسير على استقلال وانفراد. وقد جُمع ما نقله هؤلاء عن أسلافهم مسنداً إليهم ولم يصل إلينا شيء منها).(6)
ثمَّ بعد هذه الخطوة خطا التفسير خطوة ثالثة انفصل فيها عن الحديث، فأصبح علماً قائماً بنفسه، ووضع التفسير لكلّ آية من القرآن، ورُتِّب ذلك على حسب ترتيب المصحف، وتمَّ ذلك على أيدي طائفة من العلماء؛ منهم:
1- ابن ماجه، (ت273هـ).
2- ابن جرير الطبري، (ت310هـ).
3- أبو بكر بن المنذر النيسابوري، (ت318هـ).
4- ابن أبي حاتم الرازي، (ت327هـ).
5- ابن حبَّان، (ت366هـ).
6- الحاكم النيسابوري، (ت405هـ).
وغيرهم من الأئمَّة، وكلّ هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الصَّحابة والتابعين وتابعي التابعين، وليس فيها شيءٌ من التفسير أكثر من التفسير المأثور إلاَّ ما كان من ابن جرير الطبري، فإنَّه ذكر الأقوال، ثمَّ وجهّها ورجّح بعضها على بعض ".(7)
وقد كان كثير من العلماء في هذه الآونة على معرفة واسعة بعلوم القرآن، على الرَّغم من أنَّهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم خاص.. يشير إلى ذلك ما قاله الإمام الشافعي للرَّشيد حين سأله: كيف علمك يا شافعيُّ بكتاب الله عزَّ وجل؟ فقال الشافعي رضي الله عنه: "إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره، أو عن ناسخه ومنسوخه؟ وصار يذكر له من علوم القرآن، ويجيب على كلّ سؤال بما أدهش الرَّشيد والحاضرين.
-------------------------------------
الهوامش:
(1) انظر: نظم الدرر، للبقاعي 3/407، وتاريخ القرآن الكريم، محمد طاهر الكردي 1/180.
(2) قال الطبري في تفسيره 11/196: (وأما "يحيى بن يعمر.." فهو ثقة جليل، يروي عن الصحابة والتابعين. كان نحويًا صاحب علم بالعربية والقرآن، وهو أول من نقط المصاحف). وانظر أيضاً: تفسير اللباب في علوم الكتاب، لابن عادل الدمشقي 9/383.
(3) قال البرسوي في روح البيان 14/95: (وأما النُقَط فأول من وضعها بالمصحف نصر بن عاصم الليثي بأمر الحجاج بن يوسف أمير العراق وخراسان).
(4) انظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد 7/273، ط بيروت، وأضواء على علوم القرآن، د. عبد العزيز صقر 1/6.
(5) تاريخ الإسلام، للذهبي 3/34. وتاريخ الخلفاء، للسيوطي 1/107.
(6) التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي 4/1.
(7) التفسير والمفسرون، د. محمد حسين الذهبي 4/1.