إنَّ المطَّلعَ منَّا على أحوال الحركة الإسلاميَّة في وقتنا الرَّاهن يجد الكثير مِن القضايا الواجب مناقشتها والوقوف أمامها بالتقييم ودراسة الجدوى، وخصوصًا فيما يتعلَّق بمسألة "ماذا بعد؟!".
فعلى الرَّغم من تشابه بدايات حركة الصَّحوة الإسلاميَّة بمختلف أطيافها، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالأسباب التي دعت إلى ظهور الصَّحوة والحركات المختلفة التي انضوت تحتها؛ إلاَّ أنَّ هذه البدايات المتشابهة لم تُؤدِّ إلى نتائج متشابهة بخلاف الحال في مجال العلوم الطَّبيعيَّة؛ حيث ترتبط الصَّحوة بالظاهرة البشريَّة المُتغيِّرة وغير القابلة للضَّبط الكامل بخلاف الطَّبيعة كما خلقها اللهُ تعالى.
وكانت بداية الصَّحوة الإسلاميَّة عندما التفت الكثير من علماء المسلمين وقادة الحركات والمدارس الإسلاميَّة إلى أنَّ فحسب، بعيدًا عن روح الإسلام كدين علم وعمل وأخلاق، ودينٍ شاملٍ يتضمَّن الإجابات كافة عن الأسئلة والمشكلات التي تواجه الإنسان.
وذلك بالإضافة إلى مجموعةٍ مِن الظُّروف الأخرى التي كانت- ولا تزال في حقيقة الأمر- قائمة على مستوى العالم العربي والإسلامي، من تخلُّفٍ حضاري وعلمي واقتصادي وعسكري.. إلخ، وتفتُّت وتشرذم، وصل إلى درجة التَّطاحُن الداخلي والاحتراب بين الدول العربيَّة والإسلاميَّة وبعضها البعض، وكذلك وقوع أجزاءَ كبيرةٍ مِن العالم العربيِّ والإسلاميِّ تحت نَير الاستعمار الغربيِّ المُباشر؛ حيث كانت القوى الأوروبيَّة تسيطر على أجزاء شاسعة من البلدان العربيَّة والإسلاميَّة بقوة السِّلاح والسِّياسة وتستنزف خيراتها وثرواتها وتوجِّهها في سبيل تحقيق المصالح الغربية على مختلف المستويات السياسية والأمنية والعسكرية وغير ذلك.
وهو وضع لا يزال قائمًا؛ حيث تحتل الولايات المتحدة العراق وأفغانستان بالقوة العسكريَّة المباشرة، بينما تهيمن بالقوة السياسيَّة والاقتصاديَّة على الكثير من أرجاء العالم العربي والإسلامي، وتدعم الكيان الصهيوني الذي يحتل أقدس بقعة في أرض الأُمَّة، فلسطين، وفي القلب منها القُدس.
وعندما غاب تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، غابَ المشروع الأممي الإسلامي في الدَّاخل والخارج، وبات واضحًا أنَّ غيابَ الدَّولة القوّية القادرة على فرض النموذج الإسلامي الأصيل يُعدُّ واحدًا من أهم أسباب هذه الحالة، مع كون فرض الشريعة وحماية مقاصدها الخمسة- وعلى رأسها حماية الدين- والعمل بما أنزل الله تعالى هو الهدف الرَّئيس من وراء استخلافه عزَّ وجل للإنسان في الأرض.
هذه العوامل أفرزت ظاهرة الصَّحوة الإسلاميَّة بمختلف ألوان طيفها الحركيِّ، وقد اختلفت الحركات والجماعات الإسلاميَّة المُختلفة في مناهجها وأساليبها وأدواتها، كما اختلفَتْ في بعض الأولويَّات.
وهذا الاختلاف هو في حقيقة الأمر هو الذي أدَّى إلى تفاوت أو تبايُن مستوى الإنجاز الذي تحقَّق لكلِّ حركةٍ أو جماعةٍ مِن هذه الحركات والجماعات خلال عقود الصَّحوة الماضية.
وبوجهٍ عامٍّ يُمكن تقسيم الحركات والجماعات الإسلاميَّة في منطلقاتها وبرامجها وحركيَّاتها إلى قسمَيْن رئيسيَّيْن؛ القسم الأوَّل منها ينطلق من مفاهيم راديكاليَّة تعتمد على مبدأ محاولة إحداث تغييرٍ عميقٍ ومفاجئ باستخدام وسائل تميل غالبًا إلى العُنف في أثناء محاولة إحداثها لهذا التَّغيير، أمَّا القسم أو الاتِّجاه الثَّاني، فهو يعتمد على مبدأ التَّغيير التَّدرُّجي باستخدام وسائل وأدوات سلميَّةٍ.
وترتبط حركيَّات هذه المجموعة الأخيرة في الغالب بتغيير البُنية الاجتماعيَّة والقيميَّة والثَّقافيَّة للمجتمعات التي تستهدفها هذه الحركات، بحيث تكون هذه المجتمعات عامل حفزٍ لمشروع الصَّحوة؛ وليست عاملاً مُعوِّقًا لها أو عبئًا إضافيًّا عليها.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هذه المُنطلقات والمبادئ مشتقَّةٌ أساسًا مِن طبيعة الإسلام ذاته كدينٍ يقوم على أساس التَّغيير التَّدرُّجيِّ، بشكلٍ يُراعي اعتبارات الطَّبيعة الإنسانيَّة سواء على المستوى الفرديِّ أو على مستوى ما يُعرَف بالوجدان الجمعيِّ للمجتمعات الإنسانيَّة، والذي يكون تغييره وتغيير ثوابته أصعب بمراحل مِن التَّغيير على المستوى الفرديِّ، لارتباط ذلك بكُلِّيَّاتٍ تتعلق بهويَّة وثوابت هذه المجتمعات، والتي قد يمسُّ تغييرها مساسًا بعقائد أو بمكتسبات مراكز القوى فيه.
ويكون هذا النَّمط من التَّغيير التَّدريجيِّ ذي الطَّابع القيميِّ والأدوات السِّلميَّة في طبيعتها، أكثر إلحاحًا في مرحلة الاستضعاف؛ حيث يكون المسلم في البداية في موضع ضعفٍ لا يسمح له بتغيير كلِّ شيءٍ من أوَّله إلى آخره وفورًا، ويكون أوَّل واجباته هو طمأنة وتعريف المجتمع الجديد إلى طبيعة ما يدعو إليه.
وهو ما بدا في الكثير من مراحل الدَّعوة الإسلاميَّة في بواكيرها الأولى، وكذلك في صميم أو صُلب تعاليم الإسلام كما وردَتْ في القرآن الكريم، شرعة ومنهاج المسلمين، مع السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة.
ففي المرحلة المكِّيَّة مِن البَعثة المُحمديَّة؛ كانت الدَّعوة أوَّلاً تتمُّ سرًّا، ثُمَّ تطوَّرت وخرجَتْ إلى العلن بزيادة عدد المسلمين، ودخول شخصيَّاتٍ؛ مثل حمزة بن عبد المُطَّلِب وعُمرَ بن الخطَّاب "رَضِيَ اللهُ عَنْهما" فيها، ثُمَّ بعد ذلك صارت دولة الإسلام في المدينة بعد استكمال أركان التَّغيير المطلوب، والذي ركَّز في الكثير من جوانبه على النَّواحي القيميَّة والتربية الأخلاقيَّة.. ((إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق)) [أخرجه مسلم].
وكانت التَّربية والتَّدرُّجيَّة هي منهاج الرَّسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" الأوَّل في الدَّعوة كما بدا في حديثه إلى الأعرابيِّ الذي جاءه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" يطلب منه أنْ يسمح له بالزِّنا.
بل إنَّ ذلك هو منطق الإله الواحد الأحد في كلامه القديم في القرآن الكريم، كما في آيات تحريم الخمر ومنع الرَّقيق؛ بل إنَّ موضوع تحريم تجارة الرَّقيق لم ينزل بها نصٌّ قطعيٌّ الثُّبوت؛ حيث انقطع الوحي بوفاة الرَّسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ولم ينزل نصٌّ قرآنيٌّ بتحريم تجارة الرَّقيق، وذلك لأنَّ حكمة اللهِ تعالى علمت أنَّ الأمر أوسع نطاقًا من أنْ يتمَّ تغييره في بضعٍ وعشرين سنةٍ هي عمر بعثة مُحَمَّدٍ بن عبد اللهِ "عليه الصَّلاة والسَّلامُ".
ولقد عاد الجدل حول مسألة التَّغيير في منهاج الحركات الإسلاميَّة ما بين العنف والطَّابع الثَّوريِّ، وبين السِّلميَّة والتَّدرُّجيَّة، يتجدَّد بفعل العديد مِن العوامل، من بينها نجاح الثَّورات الشَّعبيَّة في الكثير مِن أنحاء عالمنا العربيِّ في تحقيق أهدافها في الإطاحة بأنظمة الطُّغيان والظُّلم والفساد والاستبداد، واغتيال الولايات المتحدة لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قبل أيَّامٍ في باكستان.
فالثَّورات العربيَّة التي اندلعت، إنَّما كان نجاحُها، بعد توفيق اللهِ عزَّ وجلَّ أوَّلاً وأخيرًا، يعود إلى طبيعة المنهاج الذي استخدمته الحركات الاجتماعيَّة التي قادت هذا الحِراك، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التي استطاعت في غضون سنواتٍ قليلةٍ من العمل السِّياسيِّ والاجتماعيِّ في مصر مثلاً إحداث التَّغيِّير المطلوب في بُنية المُجتمع المصريِّ القيميَّة، وإنجاح ثورةٍ شعبيَّةٍ نظيفةٍ شَهِدَ لها العالمُ كلُّه.
بينما استشهد ابن لادن برصاص أعدائه وهو لم يزل مطاردًا، ولم يستطع تنظيمه، القاعدة تحقيق أيَّ من الأهداف التي أعلن عنها عند قيامه، والتي تتمحوَر في أهداف ثوريَّة بحقٍّ، من بينها إسقاط التَّحالُف الصَّليبيِّ اليهوديِّ العالميِّ وتحرير فلسطين.
فالقاعدة فشلت في الوصول من الأساس إلى فلسطين بسبب نهجها العنيف؛ بينما فشل الكيان الصهيوني ومن ورائها تحالفٌ إقليميٌّ ودوليٌّ كاسحٌ في إسقاط حركة المقاومة الإسلاميَّة "حماس" في قطاع غزَّة برغم سنين الحصار والعدوان الطَّويلة، وذلك بسبب منهجيَّة الحركة في التَّغيير الاجتماعيِّ التَّدرُّجيِّ، بوسائل اجتماعيَّةٍ ودعويَّةٍ وخطابٍ أخلاقيٍّ سلميِّ الطَّابع، ساعد على جعل المجتمع الفلسطينيِّ هو الحاضنة والدَّاعم الرَّئيس لحركة حماس ولمشروع المقاومة بشكلٍ عامٍّ؛ فصارت كلُّ غزَّة حماس، وكلُّ المجتمع الغزَّاويُّ معبِّرًا عن مشروع المقاومة.
في مُقابل ذلك لم يفلح فكر أو منهج العنف في صناعة مجتمعٍ واحدٍ يقف كله مُحتشدًا خلف هكذا مشروعٍ، فحتَّى في أفغانستان، وبرغم نجاح حركة طالبان في إقامة إمارتها الإسلاميَّة؛ إلا أنَّها سقطت أمام الغزو الأمريكيِّ الغربيِّ المُباشر عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001م؛ حيث لم ينجح منهج العنف والتَّغيير الثَّوريِّ العميق غير المتدرِّج في اجتذاب المجتمع الأفغانيِّ بأكمله لاحتضان مشروع طالبان أو القاعدة.
وهو ما لم يفلح فيه الكيان الصهيوني في حرب غزَّة في شتاء العام 2008/2009م؛ حيث كان إسقاط حماس معناه هدم قطاع غزَّة بأكمله، ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى اختلاف المنهجيَّة والمنطلقات بين كلا المشروعَيْن.
وفي الأخير تجب الإشارة إلى أنَّه مهما كان؛ فإنَّ هناك مجموعة مِن الحقائق المُهمَّة التي ترتبط بحديثنا السَّابق هذا، والتي وردَتْ في بعض آيات خواتيم سورة "هود"، وهي مِن السُّور التي شيَّبَت رسولنا الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فالله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾.
فالآيتان الكريمتان هنا تُشيران إلى أنَّ الخلاف والاختلاف هو إحدى سُنن الخلق الإلهيِّ في العمران البشريِّ، وهو ما يجب قبوله، والحركة في إطاره باعتباره شيئًا مُسلَّمًا به يجب أخذه كما هو.
ثُمَّ يعود ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى فيقول بعد ذلك: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾، وهي دعوةٌ صريحةٌ للعمل والاجتهاد، وترك النَّتيجة والأجر على اللهِ سبحانه وتعالى، هو يفصل بيننا!