وصف علماء الحديث جملة من أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّها جمعت أهم مبادئ الإيمان والإسلام، فمن هذه الأحاديث ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيْهما عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلم قال :
((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النَّار))
إنَّ المؤمن إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، ثمَّ قام بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، فإنَّه يجد من راحة النَّفس وسعادة القلب وانشراح الصَّدر وسعة البال أثناء العبادة وعقب الانتهاء منها ما لا يوصف، وهذه اللذة تتفاوت من شخص إلى شخص حسب قوة الإيمان وضعفه، وتحصل هذه اللذة بحصول أسبابها كما تزول بزوال أسبابها، فمنها أن يحب الله ورسوله أكثر من غيرهما، وأن يحب إخوانه في الله ولله، وبالعكس يبغض الكفر وأهله امتثالا لأمر الله، كما يكره أن يقذف في النَّار.
فقد شمل هذا الحديث الشريف ثلاثة سبل للوصول إلى حلاوة الإيمان، فهل هذا يعني أنَّ السبل مقتصرة على ثلاثة فقط، فما دلالة العدد في الحديث؟
مفهوم العدد في الحديث ..
ورد العدد (ثلاثة) في أحاديث كثيرة، منها : قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))، (رواه الشيخان)، وقوله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة :المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره))، (رواه مسلم)،وغيرها ...، فإذا ورد الحديث بصيغة الجزم فلا ينبغي أن نزيد عليها أو أن نقصر، وإذا ورد العدد بغير صيغة الجزم أو وردت نصوص أخرى تخالفه، فنحكم عليه حينئذٍ بأنَّ العدد غير مطلوب ومقصود الشارع ذكر جزء من الكل، والحديث الشريف الذي بين أيدينا من هذا القبيل، فيكون معناه : ثلاث خصال من الخصال الكثيرة التي يجد بها المرء حلاوة الإيمان، ويَعْضد هذا القولَ ووردُ أحاديث نبوية أخرى تبيّن خصالاً أخرى يجد صاحبها حلاوة الإيمان، منها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، عن العبَّاس بن عبد المُطَّلِب أَنَّه سَمِعَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول : (( ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا )).
ولنبدأ الآن في شرح أركان هذا الحديث النبوي، وبيان كل سبيل تؤدّي بنا إلى حلاوة الإيمان، وقبل البدء، ما معنى حلاوة الإيمان ؟
إنَّ المؤمن إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، ثمَّ قام بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، فإنَّه يجد من راحة النَّفس وسعادة القلب وانشراح الصَّدر وسعة البال أثناء العبادة وعقب الانتهاء منها ما لا يوصف
حلاوة الإيمان ..
قال الإمام النووي: قال العلماء رحمهم الله: (معنى حَلَاوَة الإيمان اِستِلْذَاذ الطَّاعَات وَتَحَمُّل المَشَقَّات في رِضا الله عَزَّ وَجَلَّ، وَرَسُوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وَإِيثَار ذَلِكَ عَلَى عَرَضِ الدُّنيا، ومحبَّة الْعبد رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِفِعلِ طَاعَته، وَتَرْكِ مُخَالَفَته، وَكَذَلِكَ مَحَبَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم).
وقال ابن حجر في فتح الباري: وَفِي قَوْله : ((حَلَاوَة الْإِيمَان)) اِسْتِعَارَة تَخْيِيلِيَّةٌ، شَبَّهَ رَغْبَة المُؤْمِن فِي الْإِيمَان بِشَيْءٍ حُلْو ، وَأَثْبَتَ لَهُ لَازِم ذَلِكَ الشَّيْء ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ ، وَفِيهِ تَلْمِيح إِلَى قِصَّة المَرِيض وَالصَّحِيح ؛ لِأَنَّ المَرِيض الصَّفْرَاوِيّ يَجِد
طَعم الْعَسَل مُرًّا، وَالصَّحِيح يَذُوق حَلَاوَته عَلَى مَا هِيَ عليه، وَكُلَّمَا نَقَصَت الصِّحَّة شَيئًا مَا نَقَصَ ذَوْقه بِقَدرِ ذَلِكَ.
وقال السندي في شرح سنن النسائي: ((حَلَاوَة الْإِيمَان)) : (أَي انشراح الصَّدر به وَلَذَّة الْقَلْب له تُشبِه لَذَّة الشَّيْء إِلَى حُصُول فِي الْفَم، وَقِيلَ : الْحَلَاوَة الْحُسْن، وَبِالْجُمْلَةِ فللإيمان لَذَّة فِي الْقَلْب تُشبه الحلاوة الحِسِّيَّة، بَل رُبَّمَا يَغلِب عليها حتَّى يَدفَع بِهَا أَشَدّ المَرَارَات، وَهَذَا مِمَّا يَعلَم به مَن شَرَحَ الله صَدره للإسلام، اللهُمَّ اُرزُقْنَاهَا مَعَ الدَّوَام عَلَيهَا).
حبُّ الله ورسوله ..
إنَّ محبة الله تعالى أعلا درجات العبودية، فتقديمها واجب على جميع المحاب من والد، وولد، وزوجة، وصديق، وجاه، ومال، وغيرها، يقول الإمام ابن قيم رحمه الله : (إنَّ محبة الله سبحانه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه، أصل الدين وأصل أعماله وإرادته...ومحبته تعالى، بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [البقرة: 165])، وقال أيضاً: (منزلة المحبَّة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام...).
كما دلَّ الحديث العظيم على وجوب تقديم محبَّة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم على محبَّة غيره، وجعلها بعد محبَّة الله تعالى، وقد جاء ذلك في كثير من الآيات والأحاديث بالنص عليها مباشرة، وبدلالة التضمن أيضاً، مثل قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65].
الحب في الله ..
دلَّ هذا الحديث العظيم على أنَّ محبَّة المؤمنين لإخوانهم من أعلا درجات الإيمان، ومن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، لذلك فالعلاقة بين المؤمن و إخوانه مبنية على المحبَّة الإيمانية، فما عدا هذه العلاقة الإيمانية زائلٌ، بل قد ينقلب إلى ويلات وحسرات وعداوات يوم القيامة، وفي ذلك قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
فعلى الأخ المسلم أن يجعل علاقته علاقة أخوة ومحبَّة إيمانية لأجل أن ينعم بفضلها وخيراتها، ذلك أنَّ التَّحاب في الله تعالى والأخوة في دينه من أفضل القُرُبات، وألطف ما يستفاد من الطَّاعات، ففي الحديث القدسي: قال الله: ((حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء)). (أخرجه أحمد والطبراني، وهو حديث صحيح). وفي صحيح مسلم قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم : ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي)).
إنَّ محبة الله سبحانه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه، أصل الدين وأصل أعماله وإرادته...ومحبته تعالى، بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده .. الإمام ابن قيم
نعمة الإيمان..
جاء بيان أهمية الثبات على الإيمان والحث عليه في أحاديث كثيرة: منها ما روي عن سُفيَانَ بن عبد الله الثَّقَفِيِّ، قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ)). وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: ((غَيْرَكَ)). قَالَ: ((قُلْ آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ)). (رواه مسلم).
كما حذَّر النبي صلَّى الله عليه وسلم من الفتن التي تذهب بإيمان العبد، فعن أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: ((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا وَيُمسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا )). (رواه مسلم)
قال الإمام النووي: (معنى الحديث الحَثّ على المبادرة إِلَى الأَعمال الصَّالحة قبل تَعَذُّرهَا، والاشتغال عَنهَا بما يحدث من الفِتَن الشَّاغِلَة المُتَكَاثرة المُتراكمة كَتَرَاكُمِ ظَلَام اللَّيْل الْمُظْلِم لَا الْمُقْمِر، وَوَصَفَ صلَّى الله عليه وسلم - نَوعًا مِن شَدَائِد تِلْك الْفِتَن ، وَهُوَ أَنَّهُ يُمسِي مُؤمنًا ثُمَّ يُصبِح كَافِرًا أَوْ عَكْسه. شَكَّ الرَّاوِي، وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَن يَنْقَلِب الإنسان فِي اليوم الواحد هذا الانقلاب. وَالله أَعْلَم)
ولا شكَّ أنَّ أعظم الذنوب الشرك والكفر، ولذا ورد النَّهي الشديد عن الوقوع فيه، وإن ترتب على ذلك إزهاق النفس، فعَن أَبِي الدَّردَاءِ رضي الله عنه قَالَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي صلَّى الله عليه وسلم: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِالله شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ ...)). (رواه ابن ماجه في سننه).
نعمة الإيمان نعمة عظيمة لا تدانيها نعم الأرض كلها، فوجب الحفاظ والثبات عليها...
وبعد أخي، فمهما توفرت لنا سبل الرَّاحة والمعيشة والعيش الرَّغيد من متع الحياة وزينتها، فلن نجد لذة الإيمان وحلاوته إلاَّ إذا وثقت بالله صلتنا، فالمال والجاه والحسب والنسب والأولاد لا تغني عن الإيمان شيئاً، ولا نسبة بين نعيم الدّنيا الزائل وبين نعيم الإيمان.
مراجع للاستزادة :
-جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي.
-مدارج السالكين لابن قيم الجوزية.
-شرح صحيح مسلم للإمام النَّووي.