لقد أتى حين من الدَّهر على أفراد أمتنا الإسلامية - لا مجموعها - فابتعدوا عن تعاليم دينهم وشريعة ربّهم، حتّى انسلخوا عن كلِّ ما يمّت لتلك التعاليم والنظم الرّبانية بصلة، وأصبحتَ لا تفرّق بينهم وبين غيرهم من أصحاب الضّلالات والأهواء والشطح والزّيغ، سواء كان في الفكر والتصوّر أو في الممارسة والتّطبيق، وفي ظل الأحداث التي تشهدها أمتنا اليوم من ثورات وانتفاضات ضد الظلم والقهر والاستبداد، وانتفاضة فلسطينية ثالثة تلوح في الأفق يرنو أصحابها إلى النَّصر والتحرير والعودة؛ حيث تتفق الرؤى والأفكار حول الأهداف، لكن النتائج مرهونة بمدى صدق كلِّ طرف وإيمانه بمشروعه، ومن هنا كان حرّيٌّ بأفراد الحركة الإسلامية على اختلاف أطيافهم أن يبحثوا عن التميّز والاختصاص، ليس تكبّراً واستعلاءً عن بني الوطن، فهم سيبقون شركاء في الوطن يعيشون تحت مظلته، ولكنَّ طبيعة المنهج الذي ارتضوه وآمنوا به يقتضي هذا التميّز والاختصاص؛ الذي كان فيصلاً في النّصر على مرّ تاريخنا الإسلامي، وإلاَّ أصبحوا بعد حين كما وصفهم ربنا عزّ وجل في قوله:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}. (الأنعام: 65)
فإن لم يكن هناك تميّز لأفراد الحركة الإسلامية حقَّ عليهم وعيد الله، وهو أن تظل حركتهم شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبيّن نفسها، ولا يتبيَّنها النَّاس ممَّا حولها، وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم، دون أن يدركها فتح الله الموعود أو أن تقتطف ثمرة نجاح ثورتها وانتفاضتها من قبل سارقين ماهرين ماكرين، وإن كان أفراد الحركة الإسلامية متميّزين في فكرهم وسلوكهم في خضم هذه الثورات والانتفاضات تحقّق لهم النَّصر الموعود، واستطاعوا قطف ثمارها يانعة راضية برزق ربّها، ... وفي هذا المعنى يؤكّد الشهيد سيّد قطب أنَّ موقف التميّز قد يكلّف أفراد الحركة الإسلامية تضحيات ومشقات، غير أنَّ هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشدّ ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميّزه، ونتيجة تميّعها في خضم هذا الكم الهائل من التيّارات والحركات من حولها، وخصوصاً إذا كانت تهدف جميعها إلى الهدف ذاته.
ما أحوجنا اليوم إلى التميّز بشخصية خاصة نابعة من أصالة المنهج الرَّباني ومتواكبة مع روح العصر ومتطلباته، ومتزيّنة بنصاعة الخلق الإسلامي والتّعامل الرَّاقي، ما أحوجنا اليوم إلى شخصية متميّزة لا تتلبس في خصائصها هذه بشخصيات سائدة ضاعت أهدافها في أوحال السياسة والانتهازية، وارتطمت أفكارها بواقع آسن قد ملّه النَّاس وأعناقهم تشرئب إلى من ينقذهم لا إلى من يدغدغ عواطفهم ويرضى بالمكاسب...
إنَّ الاختصاص والتميّز ضروريان للحركة الإسلامية اليوم، وهي تخطّ سيرها الحثيث في تحقيق المشاركة الفاعلة في تغيير واقع المجتمع في وطننا العربي، وفي فلسطين الانخراط في مصالحة وطنية أو تأسيس انتفاضة شعبية ثالثة في فلسطين المباركة، بهدف النَّصر والتحرير والعودة.
إنَّ تاريخ الدَّعوة إلى الله على أيدي جميع الرُّسل عليهم السَّلام يطالعنا في قصصه وأخباره بأنَّ وعد الله سبحانه بالفتح والنَّصر المبين، وتحقيق الغلبة لرسله والذين آمنوا معهم لم يقع في مرَّة واحدة قبل تميّز أفراد العصبة المسلمة في العقيدة والتشريع والخلق والممارسة ومنهج الحياة، حيث كان التميّز والاختصاص نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدَّعوات جميعاً.
ولنا القدوة الحسنة في رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم ونحن نخطّ هذه العبارات، لنضرب المثل بسيرته العطرة عليه الصَّلاة والسَّلام، فقُبيل غزوة بدر الكبرى – التي كانت فرقاناً بين الحق والباطل- كان التميّز بين المسلمين وغيرهم في عدَّة جوانب مفاصل مهمَّة، بأمر كاملٍ وخالصٍ من الله سبحانه وتعالى، واستجابة لرغبة نبيّه صلَّى الله عليه وسلّم، فحين أعلن اليهود حربهم العنيفة المشبوهة على المسلمين، فبات حرصهم على التميّز ضرورياًّ في العادات واللباس والعبادات، فمن مفاصله البارزة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، إلى المسجد الحرام الذي لا يزال تحت سيطرة قريش ولعلَّ في ذلك حكمة أخرى غير التميّز والاختصاص، تمكن في تحويل أنظار المسلمين إلى ضرورة تحريره وتخليصه من براثن الوثنية.
وبالإضافة إلى هذا التميّز الذي يمثل ركن الصَّلاة، كان التميّز في ركنٍ ثان وهو الصيام؛ حيث أصبح منذ ذلك القوت شهر الصّيام الإسلامي، كما حدّدت مفاهيم وأنصبة كل من الزكاة والصدقات بشكل واضح لا لبس فيه.
إنَّ التميّز في الصَّلاة والصّيام والزّكاة قبيل غزة بدر كان إرهاصاً للنَّصر المبين، ولعلّ الوقوف على دروس وعبر السيرة النبوية اليوم كفيل بتحقيق هذا التميّز الذي نرنو إليه ونراه قريباً.. ليتحقَّق التغيير المنشود في وطننا العربي والنَّصر والتحرير والعودة في فلسطيننا الحبيبة، بإذن الله تعالى فهو القائل.. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. (البقرة:214).
مراجع للاستزادة :
- في ظلال القرآن – سيّد قطب.
- المنهج الحركي للسيرة النبوية – محمَّد منير غضبان.