إنّه سِفْرُ التكوينِ الثاني لتأصيل العملِ الدعويّ واختيار الرواحل من بين جموع السائرين، كما كانَ ذلكـ قبل أكثر من أربعةِ عشَرَ قَرْناً يومَ أن اختارَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الطَليعةَ الأولى، فَبَثَّ إليهم دَعْوةَ الحقّ فلمْ يلبَثْ شُعاعُ نورها لامسَ شغافَ قلوبهم ليكونوا مِنْ بَعْدُ نواة العمل والتكوين.
وهيَ ذاتها خطواتُ التمكينِ الأُول في نَِسقٍ متصلٍ بين بناء الفِكْرِ، وبثّ الصلاح في المجتمع، وتخيّر لَبِناتِ البناء؛ واحدةً واحدة؛ ليشتدّ عودُ دعوةُ الخيرِ ويستوي سوقها؛ فتغيظ الكفّار.
جُبِلَتْ .. فاصطُفيت ..
إنّ المجتمعَ الدعويّ لا بدّ أن يكون ذا حصانةٍ بالغةٍ، سُموّاً بهممِ أهلهِ ونفي الخَبَثِ عنهم وهو منهجٌ ربّانيّ قبلَ أن يكونَ بشرياً، كما رُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً: (إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالاته ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيء) [الهيثمي-مجمع الزوائد]، وما النتيجة المتوخاةُ من السُراة في أجيال الخيرية الثلاث أو بعدها إلا بسبب ذلكم الاختيار الدقيق.
ولا يلُومنَّ متابِعٌ حِرْصَ الدعوةِ المُفترض انتقاءَ أبنائها ودوام التفرّس في وجوهِ وقلوبِ من حولها من قبلِ أن تُحَمّلَهم تَبِعاتِ الانتظام في مخاضٍ لاستخلاصِ النُخَب؛ بِعُسْرٍ أحياناً وبيُسْرٍ في أخرى، والقياسُ على الإسلام كدينٍ يَحْسُنُ مع الفارقِ البَيّن، ولذا كان الافتتاح هاهنا بسلوكِ التنظيمِ الأول حين كانت الدعوةُ الإسلاميةُ في مَهْدِها لم تزل، فكان الانتقاءُ أُسّاً لبقاءِ الدعوةِ وإمكانيةِ صمودها من بعدُ.
ولمّا كان الأمر على هذه الدرجة من الأهميّة والأصالة، كان التوجيهُ النبويّ بـ((إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة))[أخرجه البخاري]، في حديثٌ منه عليه الصلاة والسلام لروّاد التغيير ومُحَرِكيهِ أولاً، ولمَنْ وُكّلوا من بعدُ في اختيار السُراة والقيادات على مستويات التنظيم كلّها لمراعاة تلكم الميّزات إذْ أنّه السبيلُ لإتمام مهمّة التغيير والإصلاح.
حُسْنُ طَويّةٍ .. تهدي !!
إنّ الزيادةَ الطبيعيّةَ للأفرادِ لا بدّ أنْ تسيرُ وفق خطّة دعويّةٍ مرسومةٍ جَنباً إلى جَنْبٍ مع مُخطّط العمل في الأُطُرِ كُلّها، وذلكَ في تمدّدٍ أفقيّ ورأسيّ في آنٍ معاًوالتفَرّسُ في وجوه القومِ قادَ المعصومَ عليه السلام ليدعو ((اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب قال وكان أحبهما إليه عمر))[أخرجه الترمذي]، في التفاتةٍ للنظرِ إلى مكنوناتِ كليهما والاستعدادات الفطرية لكلٍّ منهما من جهةٍ، وإمكانية التأثير في محيطهم الدعويّ والإنساني من جهةٍ أخرى. وهذا هو عينُ ما أشارَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الناسُ معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا)) [أخرجه البخاري]، فتلقفّ الأتباعُ الحكمةَ من النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولينطِق باسمهم سيّد قطب رحمه الله أنّ (الشرَ ليس عميقاً في النفس الإنسانية إلى الحد الذي نتصوره أحياناً، إنه في تلك القشرة الصلبة التي يواجهون بها كفاح الحياة للبقاء. فإذا أمنوا تكشفت تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية؛ هذه الثمرة الحلوة، إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة في مودته، بالعطف الحقيقي على كفاحهم وآلامهم، وعلى أخطائهم أو على حماقاتهم كذلك. وشيء من سعة الصدر في أول الأمر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون).
إنّ الزيادةَ الطبيعيّةَ للأفرادِ لا بدّ أنْ تسيرُ وفق خطّة دعويّةٍ مرسومةٍ جَنباً إلى جَنْبٍ مع مُخطّط العمل في الأُطُرِ كُلّها، وذلكَ في تمدّدٍ أفقيّ ورأسيّ في آنٍ معاً. إلاّ أنّنا اليوم نشهدُ تحولاّتٍ بالغةَ الأثر في جسمِ التنظيمِ الإسلامي من جهةٍ وفي جسمِ الأمةِ بأسرها في جهةٍ أخرى ممّا يستدعي صفّ الكفاءات، واختيار النُخب للقيام بأمر توجيهِ هذا التغيير.
إنْ كانَ .. كان !!
إنّ جُملةَ الاستعدادات التنظيميّة، لعظيمةُ –واللهِ-، وعَطْفاً على تلكَ الأصولِ الشرعيةِ العظيمةِ التي لا بد أن يتحلّى بها الدعاةُ، فإنّ مفتاح الاختيار لأولئك الرجالات تكمنُ أولَ ما تكمنُ في قَبول العمل التنظيمي كآصرةٍ جامعةٍ لأبناء الصفّ. وكَمْ من عاملٍ صادقٍ ذو أثرٍ هو أنْفَعُ للدعوةِ كونَهُ خارجها منهُ إنْ كان ضمنَ أُطُرها التنظيميّة؛ ذاكَ أنّ هذه الأُطرَ ذات مُحدّداتٍ لنشاطِ الفردِ، ليس سهلاً قبولها عند كلّ العاملين، وإن صَدَقتْ النيّة.
والدعاةُ إنْ هم قبلوا الالتزامَ بالعمل التنظيمي فهم بذلك وقفٌ لدعواتهم وقد احتسبوا العمل بأسره في سبيل الله، ولمّا كان هذا هو الحالُ، فإنّ هذه الاستعدادت الفطرية منها والمُكتسب يُعدّ ميزاناً دقيقاً لقبول السراةِ أو ردّهم، لا انتقاصاً من إخلاصهم وقدراتهم، لكنّها الأدوار التي تُوزّع ضمن هذه المنظومة. وحسبُ كلّ عاملٍ ثناءُ النبي عليه الصلاة والسلام ووعدوه بطوبى، أنْ ((طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع))[أخرجه البخاري]، فهو وإنْ كان حديثاً في صورته الأولى للجهاد إلاّ أنّ معناه أبعدُ من ذلك وأعمق لمَنْ عَرَفَ العمل الجماعي وتبعاته. وهي بُشرى أن الأجرَ والقبول لا يستأثرُ به رؤوس القومِ وقياداتهم وإنّما أولئك النفر الذين انتدبتهم دعوتهم ليكونوا في حراسةِ القوم أو مؤخرتهم، لكنّهم وإن كانوا في أحطّ الأعمال وأدناها –ربما- كانوا أمناء عليها، ليكونوا أمناءَ على ما هو أعظمُ منها فيما بعد.
إيجابيّةٌ متوخاة
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف111]، ولَتَقفْ طويلاً حين تكونُ العبرةُ من طائرٍ من هذه العجماواتِ؛ حرصاً وإيجابيةً قلّ نظيرها، متمثلةً بهُدْهُد سليمان عليه السلام حين غاب ليأتيَ لقيادتهِ بخبرِ بلقيس ومن معها، وليكن مفتاحَ هدايةِ القومِ عن آخرهم في جهدٍ فرديٍّ فريد.
وآياتُ الهداهدِ لم تنقضي يوماً، وبين يديكَ آيُ الكتاب؛ فمؤمنُ آل فرعونَ واحدٌ منهم، وكذا كان مؤمنُ القريةِ صادحاً بالحقّ من أقصى المدينة، وكفى بهما من قصتين ذواتي أثرٍ بالغٍ للعاملين اليوم، وفي كل حين، لو كان القومُ يعلمون!!
ثمّ لا تلبثُ الأيام تُنْبيكَ بخبرِ الصدّيق؛ يحملُ مشعلَ الإيمان لنفرٍ من قريشٍ بعدَ لحظاتٍ من انتفاض روحه وجوارحه كلها ناطقةً بالشهادتين. وهو تاريخٌ عزّ نظيره من صدْقِ القومِ وإيجابيتهم الجامحةِ، ليبينِ بعد حينٍ أبو بصيرٍ ومن معه من رجالٍ وآحادٍ التفوا حوله، بشهادةِ النبي صلى الله عليه وسلم ((ويلَ أمه، مسعر حرب، لو كان له أحد))[أخرجه البخاري]، لم يتسمّر أيٌّ منهم قابعاً هناك في الظلّ، منتظراً رياحَ التغيير أن تحمله أو تدفعه ليعملَ أو يقود!!
ولاءٌ رَاشِد
إنّ فيما ساقه الشيخ الراشد في (صناعة الحياة) عن قصصِ الولاءِ إشاراتٌ ذاتُ معنى، تُلزمُ الوقوف والتأمل؛ إذ يكفي أن يُدركَ الدُعاةُ أن صناعةَ الولاءات للدعوةِ وفكرها عند جمهور الناسِ سببٌ مؤثرٌ لترجيح الكفّةِ. لكنَ الأمرَ يحتاجُ من يملكُ زمام جمعِ تلكَ الولاءات.
وقيادةُ العملِ منوطٌ بها أن تبحثَ عن النجباءِ من الصاعدين؛ صغيرهم وكبيرهم، ترعاهم وتربّيهم على عينها، تُكرعهم فنون العمل، ليصلُب العود، حتى إذا ما أَزِفَت ساعةُ عقد اللواء أنفذتَ أبناءها في أصقاع العمل وفضاءاته الواسعة، بقلوبٍ متوقّدة وأذهانٍ ملأتها عصارات تجارب العملِ والقيادة والتجميع؛ فتسير كتائب التغيير على بركة الله، في هالةٍ جليلةٍ تَلُفّها قلوب الناسِ وأجسامهم، وأصواتهم إن لَزِم الأمر.
ليكونوا بذا أحفاداً لأسامةَ بن زيد رضي الله عنهما، كلّ واحدٍ فيهم خليقٌ للإمارة وقيادةِ الناس كما كانَ هو وأبوه من قبلُ خَليقين بها بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
إنّ اختيار السُراةِ يقومُ فيما يقومُ على أصولٍ أربعٍ؛ حُسنُ المنطَلقِ وصفاؤه المرجوّ، الانضباطُ التنظيمي، الإيجابية الدافعة، والنَفَسُ القياديّ المؤثر في المُحيط
اختيارُ السُراةِ.. لانتخابِ الحُداةِ
وبعدُ، فإنّ اختيار السُراةِ يقومُ فيما يقومُ على أصولٍ أربعٍ؛ حُسنُ المنطَلقِ وصفاؤه المرجوّ، الانضباطُ التنظيمي، الإيجابية الدافعة، والنَفَسُ القياديّ المؤثر في المُحيط. لتكون هذه الأركان مصدرِ إلهامٍ لقلوبٍ نابضةٍ بدم الدعوةِ الأصيل، فيعكف أصحابها بعدَ على اختيارِ كيْفٍ دعويٍّ حيّ، لا كمٍّ مُعيقٍ موات!!
إنّ الدُعاةَ في سوحِ العملِ اليوم، ينتظرون عيوناً تتصفّح قلوبهم واجتهادهم، كتلكَ العيونِ النبويةِ؛ لتختارهم زُرفاتٍ ووحداناً للعمل ضمن جسمِ الدعوةِ التنظيميّ، ليظفروا بدعاءٍ من صادق أن يكونوا سبباً للعزّةِ، أو بكلمةٍ تَنبشُ عن مكنوناتِ الحرصِ في دواخلهم، لتكونَ من بعدُ دعوةً تغصّ بالرجالِ، وتبحثُ من بينهم عن حادٍ يقود، في منظومةِ انتخاب الحُداة من بعدِ حُسن اختيار السُراة، وعندها يَحْمَدُ القومُ السُرى!!
---------------------------
1- أفراح الروح / الأستاذ سيّد قُطب –رحمه الله-.