العرنيون الجدد – بقلم : د.نواف التكروري

الرئيسية » حصاد الفكر » العرنيون الجدد – بقلم : د.نواف التكروري
alt


طالت الفعلة الشنيعة التي اقترفتها أيدي آثمة ومجرمة في غزة رجلاً غريباً قطع المسافات لنصرة شعب فلسطين، وسافر مراراً وتكراراً وبذل من ماله ومن وقته وعمره في سبيل مساندة الحق الفلسطيني في مواجهة الصلف الصهيوني ضد أبناء شعبنا.
قبل ذلك قتلت الجرافة الصهيونية المتضامنة الأمريكية ( راشيل كوري ) بطريقة إجرامية بشعة، ولكنْ عزاؤنا وعزاء أهلها أنها قتلت بأيدي من وقفت في وجوههم وناصبتهم العداء من أجل قضية فلسطين، ولم يكن من الشعب الفلسطيني لها إلاّ كل بر وشكر وتقدير ومحاولة الدفاع عنها، ولكن صلف العدو الصهيوني وغطرسته هي التي نالت من هذه المتضامنة التي أحسنت للشعب الفلسطيني الذي قابلها بالإحسان إحسانا.

أما قضية مقتل المتضامن ( فيتوري أريغوني ) فإن من أكثر ما يؤلم فيها أنها وقعت بأيدي فئة منتسبة إلى الإسلام، وربما يكون بعضهم من أبناء الشعب الفلسطيني الذي قطع هذا الشاب البلاد لمناصرة قضيته، فترك أهله وذويه وفارق بلاده وإخوانه من أجل أن يقيم بين أهل غزة ويشارك في حمل قضيتهم والدفاع عن حقوقهم، فالتعامل الذي ينسجم مع قيمنا ومبادئنا وأخلاقنا وديننا هو أن نكون من الشاكرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(لا يشكر الله من لا يشكر الناس) وأن نكون أوفياء له ونواسيه في غربته التي اختارها انتصاراً لنا ولقضيتنا.

وعلى كل حال فإنه مما لا شك فيه أن أبناء الشعب الفلسطيني عامة وأبناء غزة خاصة كانوا كذلك مع هذا المتضامن ومع غيره من المتضامنين الذين ساندوا قضيتنا وشعبنا، وأكرموا وفادتهم وأحسنوا معاملتهم واستضافوهم في بيوتهم ولقد كتب وتكلم كثير من العرب والعجم ممن زاروا غزة بعد العدوان عليها عما رأوه من حسن المعاملة والإيثار في لقمة العيش وكل صور الشكر والتقدير والعرفان من أهل العزة لمن زاروهم ووقفوا إلى جانبهم وهو الأمر الذي ينسجم مع قيم هذا الشعب الأبي ومروءته.

وما لم يكن في الحسبان ولم يخطر لنا على بال هو أن يلقى أحد المتضامنين حتفه على أيدي أناس ينتمون لهذا الدين العظيم، أو لهذا الشعب الكريم الذي يحفظ الود ويرعى وداد ساعة ولو في الرخاء، فالحق أني لا أستطيع أن أتخيل هذا المستوى من الانحطاط القيمي الذي يتصف به هؤلاء القتله المجرمون ولا أجد لهؤلاء الغادرين المعتدين عديمي الوفاء مماثلاً إلا أولئك النفر من عكل وعرينة، الذين أخرج البخاري حديثهم وقصتهم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن رهطاً من عكل قدموا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح, وأمرهم أن يخرجوا ويشربوا من أبوالها وألبانها فشربوا حتى إذا برئوا, قتلوا الراعي واستاقوا النَّعم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غدوة, فبعث الطلب في أثرهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم فألقوا بالحرة يستسقون فلا يسقون)

فهؤلاء القتلة المجرمون أسوأ ما في جريمتهم أنهم تنكروا للجميل وقابلوا المعروف بالإساءة وقتلوا الراعي الذي عاش معهم فترة يخدمهم ويجمع لهم من بول الإبل ولبنها حتى مَنَّ الله تعالى عليهم بالشفاء، وكانت جهوده سبباً بذلك وكان من المفروض أن يقابلوا معروفه بالشكر وربما كان في عرف الكرماء ومن لديهم مروءة وحد أدنى من الشهامة أن ينتظر هذا الراعي مكافأة من هؤلاء الذين قدم لهم هذه الخدمات, حيث يقول عليه الصلاة السلام: (من أسدى لكم معروفاً فكافئوه)،ولذلك كانت هذه العقوبة القاسية نظراً لبشاعة جرمهم وتجردهم من كل القيم والمروءة والشهامة فليست العقوبة على قتل مسلم وحسب وإنما العقوبة على أنهم قتلوا من يستحق المكافأة والإحسان. 

وهذا حال هؤلاء المجرمين الأنذال الذين تجردوا من كل القيم والمروءة والوفاء لمن قدم كي يحالفنا ويقف إلى جانبنا في مواجهة الظالم المحتل المعتدي حلفاً كحلف الفضول الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعيت إلى حلف في الجاهلية  ولو دعيت في الإسلام لمثله لأجبت)
هذا وقد اجتمعت بشاعة جريمة القتل مع بشاعة صورة تنفيذ هذه الجريمة إذ كان الخنق هو الجزاء لمن يريد لشعبنا أن يتنفس الحرية رغم الحصار.
وعلى كل حال فإنني أعلم أصالة شعبنا الفلسطيني الوفي الشكور وأن معاملته وعلاقته مع كل من أحسن إليه ووقف إلى جانبه إنما كانت انعكاساً لوفائه ومروءته،وأن هذه الشرذمة الغبية التي لم تفهم شيئاً من إسلامنا العظيم إسلام البر والوفاء للمحسن، والانتقام والمقاومة للمحتل المعتدي الغاصب فهي لا تمثل أصالة شعبنا وأمتنا ولا بوجه من الوجوه.

ولا يسعني أخيراً إلا أن أتقدم بالاعتذارإلى والدة هذا المتضامن الذي قضى على أرض غزة الحرة بهذه الطريقة الجبانة, أعتذر منها وأُقَدِّر عالياً هذا الوفاء الذي تميزت به هذه الأم الصابرة وهذا الأب الواعي وهذه الأسرة المنصفة التي تَعتبر أن ما جرى لا يمثل الشعب الفلسطيني، فقد كان ابنهم يحدثهم عن وفاء هذا الشعب ووداده وشكره لأصحاب المواقف المنصفة والمتضامنة معه ومع كل مظلوم، بل ورفضت هذه العائلة إلا أن يخرج ابنها من معبر رفح وأن لا يمر بالمعابر التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني، وأن يلف بالعلم الفلسطيني الذي بقي يرفرف في قلب ابنهم حتى فارق الدنيا، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن عزاء هذه الأسرة وأن يعوضها خيراً, وأقول ختاماً: اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل هؤلاء العرنيون أو العكليون الجدد، ولا تؤاخذنا ربنا بما فعل السفهاء منا إنك أنت مولانانعم المولى ونعم النصير.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • غزة
  • فلسطين
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    قراءة سياسية في عبادة الصيام

    عندما نضع الصيام في سياق العبادة في الإسلام نجد أن العبادة وسيلة تحقق غايات عليا …