فتوى بشرعية القيام بالأعمال التظاهرية في مواجهة الأعداءولو كان المتظاهرون لا يملكون سلاحاً، وكان العدو مدججاً بالسلاح وكون الموت في هذا الطريق من الاستشهاد في سبيل الله تعالى.
إن الأمة بحاجة إلى الإقدام والجرأة وهي أحوج ما تكون الى ذلك في هذه الأيام، وكل فعل يؤدي إلى بناء الجرأة والشجاعة في قلوب المسلمين وكذا يؤدي إلى نزع الخوف والرهبة من قلوبهم وتجرئتهم على أعدائهم المدججين بالسلاح وزرع الخوف في قلوبهم وتحقيق إحراجهم والتضييق عليهم وإساءة وجوههم، إنما هو ضرب من ضروب الجهاد والمقاومة الممدوحة وليس كما يخيل للبعض أنها إلقاء النفس إلى التهلكة.
وفي هذا السياق واستدلالاً على ذلك فإنني أسوق هنا قولين لعلمين من أعلام الأمة وعلمائها في عصرين مختلفين، الأول محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة الذي عاش في القرن الثاني للهجرة (أي قرون الخيرية).
والثاني هو شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش ظروفاً مشابهة لظروفنا من عدوان التتار على الأمة.
كل فعل يؤدي إلى بناء الجرأة والشجاعة في قلوب المسلمين وكذا يؤدي إلى نزع الخوف والرهبة من قلوبهم وتجرئتهم على أعدائهم المدججين بالسلاح وزرع الخوف في قلوبهم وتحقيق إحراجهم والتضييق عليهم وإساءة وجوههم، إنما هو ضرب من ضروب الجهاد والمقاومة الممدوحة وليس كما يخيل للبعض أنها إلقاء النفس إلى التهلكة.
قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله: (لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرَّض نفسه للتلف في غير منفعة المسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز الدين وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى المؤمنين بقوله: {نَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة 111].
أقول: لقد جعل الإمام الشيباني رحمه الله تحقيق النفع للمسلين هو المعيار الذي تقاس به الأفعال: أهي مشروعة أم ممنوعة, فرأى مشروعية العمل الذي لا تقع به نكاية مادية بالعدو ما دام فيه نفع معنوي للمسلمين من الجرأة على الأعداء، وكذا فيه توهين للعدو وإضعافه، ولا شك أن الزمان له أثره في اعتماد الوسائل لتحقيق منفعة المسلمين وتوهين الأعداء.
ومن المؤكد في زماننا أن اقتحام الشباب العزل بل والشيوخ والأطفال والنساء – على وفق ضوابط شرعية - لا سيما فيما يتعلق بخروج النساء - لا بد من مراعاتها وإلا فإن خروج المرأة يتحول الى مأثمة إذا لم تُراعِ هذه الضوابط في لباسها ومواقع وجودها – هو أعظم إضراراً بالعدو وبسمعته وبعلاقته مع أمم الأرض وبالتالي إساءة وجهه وكشف عدوانه من القيام ببعض العمليات العسكرية المسلحة، وهو ما يُعرف في زماننا بــ (وسائل التغيير السلمي) أو (المقاومة المدنية)، ومن هنا فإن من يُقتل من هؤلاء وهو يمارس هذه الضغوط على العدو – رجلاً كان أو امرأة, صغيراً كان أو كبيراً – فإنه يقضي مجاهداً ويسقط شهيداً بإذن الله تعالى، بشرط أن يكون مستحضراً لنية الجهاد في سبيل الله عاملاً لإعلاء كلمته، مُقْدِماً بقصد تحقيق الخير للمسلين والضرر بأعداء الدين، لأن الجهاد عبادة لا تصلح الا بنية.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – وهو كما أسلفت عاش ظروفاً مشابهة لظروفنا – فقد قال: (وكل من قاتل العدو بسيف أو عصا أو حجر فهو مجاهد في سبيل الله).
فجعل جهاد العدو متحققاً بالقتال بالحجر بغض النظر عما لدى العدو من سلاح وإمكانات, لأن في ذلك إرهاباً للعدو لا سيما عندما تواجهه الكثرة.
وقال في موقع آخر: (... وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها: "أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدِّين", ولهذا جوَّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين .. فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره: كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين وللدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى) (الفتاوى 28/540 ).
ويقول في موقع آخر: ينبغي للمؤمن أن يفرق بين ما نهى الله عنه من قصد الإنسان قتل نفسه أو تسببه في ذلك, وبين ما شرعه الله من بيع المؤمنين أنفسهم وأموالهم له كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة 111] وقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207 ]- يشري: أي يبيع نفسه ( الفتاوى 28/281 ).
إن ما يذهب إليه بعض أهل العلم من القول بأن من يقتل في هذه المظاهرات يخشى أن يكون منتحراً لأنه كان في معركة غير متكافئة... ليس له أي حد من الصحة وهو غير مبني على قواعد الشرع وأصوله، لا سيما أن فقه هذه الأمة يقوم على معاني العزة والكرامة، وتربية المسلم ينبغي أن تكون على أساس رفض الضيم والظلم والعدوان ومواجهته بكل الوسائل،وعدم الاستكانة والخنوع في مواجهة المحتل الغاصب مهما احتاج إلى التضحيات وبذل المهج.
ولا شك أن الخارجين في مظاهرة, والذين يلقون بالحجارة على العدو بقصد إرهاب العدو وإساءة وجهه وكشف عدوانه، ورفض الشعوب للذل والهوان ووقوفها بشيبها وشبابها وصغارها ونسائها الى جانب حملة السلاح فيها وتأييدها لمشاريع جهادهم لاسترداد الحقوق المغصوبة والديار المسلوبة والكرامة المهدورة، لا يقصدون قتل أنفسهم ولذلك يكرون ويفرون ولكنهم في الوقت نفسه ينسون ذواتهم وأجسادهم لتحقيق الإضرار بالأعداء المعتدين وجلب الخير والنفع للمسلمين, فلا يمكن أن يعد فعلهم هذا من الانتحار, بل هو من أبر الجهاد وأجلى صوره بإذن الله تعالى.
وبناء على كل ما سبق فإن ما يذهب إليه بعض أهل العلم من القول بأن من يقتل في هذه المظاهرات يخشى أن يكون منتحراً لأنه كان في معركة غير متكافئة... ليس له أي حد من الصحة وهو غير مبني على قواعد الشرع وأصوله، لا سيما أن فقه هذه الأمة يقوم على معاني العزة والكرامة، وتربية المسلم ينبغي أن تكون على أساس رفض الضيم والظلم والعدوان ومواجهته بكل الوسائل،وعدم الاستكانة والخنوع في مواجهة المحتل الغاصب مهما احتاج إلى التضحيات وبذل المهج.
يقول الإمام الجويني: (فإذا وطئ الكفار ديار الإسلام، فقد اتفق حملة الشريعة قاطبة على أنه يتعين على المسلمين أن يخفّوا ويطيروا الى مُدافَعَتهم زرافات ووحدانا, حتى انتهوا الى أن العبيد ينسلّون عن ربقة طاعة السادة ويبادرون الجهاد على الاستبداد، فإذا وجب تعريض المهج للتوى – الموت –وتعين في محاولة المدافعة التهاوي على ورطات الردى ومصادمة العدو، ومن أبدى في ذلك تمرداً فقد ظلم نفسه).
وإنني في هذا السياق لأناشد العلماء أن لا يَخْذُلُوا الأمة ولا يُخَذِّلُوا شبابها بفتاواهم التي لا أشك في الغالب بصدقهم في طرحها، ولكني متأكد أنها غير مبنية على نظر ودراسة وتمحيص لقواعد هذا الدين وغير مبنية على دراسة علمية شرعية، وإنما تنسجم مع الوهن الذي أُلقي في قلوب هذه الأمة (حب الدنيا وكراهية الموت).
فما حصل في مجدل شمس ومارون الراس وقلنديا وبيت حانون وغيرها من المواقع، من الخروج في مظاهرات واقتحامات على حدود فلسطين وفي داخلها، إنما هو ضرب من ضروب الجهاد بإذن الله تعالى، وإن كل من استحضر نية الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله والدفاع عن بلاد المسلمين من الخارجين في هذه المسيرات والمظاهرات، إنما يعد فعله من الجهاد في سبيل الله، ومن قضى من هؤلاء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكونوا في عداد الشهداء العاملين على إعلاء كلمة الله في الأرض والعاملين على تحرير الأرض من الغاصبين.
ولا شك أن هذه المسيرات والاقتحامات للحدود والمظاهرات أرهبت العدو الصهيوني وزادت من إساءة وجهه وتسليط الضوء على عدوانه وإجرامه، وهي إضافة إلى ذلك روحٌ جديدةٌ سرت في الأمة تستحق من العلماء والدعاة أن يتقدموها ويشاركوا فيها، وعلى أقل تقدير أن يشجعوها لما يترتب على ذلك من تجرئة المسلمين ورفع روحهم المعنوية وبث روح الجهاد فيهم ونزع الوهن من قلوبهم.
وإن في شباب الأمة روحاً جديدة تستحق أن يهتم بها العلماء والمربون، فلقد رأيت بأم عيني هؤلاء الشباب الذين ما إن وصلوا مكان التجمع لمسيرات العودة مقابل قرية مجدل شمس من أرض الجولان المحتلة، حتى هرعوا مهللين مكبرين الى حيث الألغام والحواجز دون خوف ولا وجل متجهين إلى الألغام لبيانها ووضع علامات عليها للاحقين من إخوانهم، وإلى الحواجز لاقتلاعها والدخول بالعشرات والمئات إلى الأرض المحتلة وصناعة مواجهة مع العدو المحتل دون تردد، بل كان العدو يفر للوراء عند كرهم، وأنا متأكد أن مثل ذلك حصل في مارون الراس، وذلك دليل على أن شباب الأمة يحملون بين ضلوعهم قلوباً لا تهاب الردى ولا تخشى العدى، وإنما هي بحاجة إلى مرشد رباني وعالم عامل يوضح الطريق ويرشد الجهود ويوجه الطاقات، وعندها تكون الحرية والعزة وتحرير فلسطين أقرب لهذه الأمة بإذن الله تعالى.
إنهم يرونه بعيداً ونراه قريبا
والحمد لله رب العالمين
--------------------------------
د. نواف تكروري
رئيس لجنة البحوث والدراسات في هيئة علماء فلسطين في الخارج