بين المداراة والمداهنة يعيش النَّاس واقعهم اليوم، وبين التصرّفين فرقٌ شاسعٌ وآثار خطيرة تهدّد حاضرهم ومستقبلهم، فالفرقُ بينهما أنَّ الأوَّل موافقة أحدنا بترك حظ نفسه، وحقٍّ يتعلَّق بماله وعرضه، فيسكت عنه دفعاً للشّر ووقوع الضَّرر، لأنَّ درء المفاسد أولى من جلب المصالح، والضَّرر يزال في شريعتنا الغرَّاء - وهو أمر غير منهي عنه - بل مطلوب ومحمودٌ إذا دعت الضَّرورة إلى ذلك، خصوصاً وأنَّ الضرورة تقدَّر بقَدْرِها، أمَّا التصرّف الثاني وهو المداهنة فكما عرَّفها العلماء أنَّها رؤية أحدنا المنكر واستطاعته دفعه وتغييره، ولم يُقدم على ذلك حِفظاً لجانب مرتكبه أو جانب غيره لخوفٍ أو طمعٍ أو لاستحياءٍ منه، أو قلّة مبالاة في الدّين، أو لغيره من المصالح والمكتسبات الدنيوية والمآرب الشخصية ..
فإذا استشرت المداهنة وانتشرت بين النّاس في سلوكياتهم وقعت الفتنة في المجتمع برمَّته، هذه الفتنة التي أمرنا المولى سبحانه وتعالى أنّ نبتعد عنها، لأنَّها إذا وقعت عمَّ الخطب جميع النَّاس؛ صالحهم وطالحهم، محسنهم ومسيئهم .. قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. (الأنفال:25).
ولتأمين بيت المجتمع الإسلامي من التآكل والتصدّع داخلياً، وتحصينه من مؤامرات أصحاب الكفر والنّفاق والزّيغ والأهواء، يضرب لنا الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث الشريف المثل البليغ؛ معلّماً وداعياً إلى ضرورة حماية لُحمة المجتمع وأواصر بنيانه من كلِّ العوامل التي تهدّد الحياة الإيمانية المطمئنة .. فعن الصحابي الجليل النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلّم قال:
((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثلِ قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
(أخرجه البخاري في صحيحه).
فإذا استشرت المداهنة وانتشرت بين النّاس في سلوكياتهم وقعت الفتنة في المجتمع برمَّته، هذه الفتنة التي أمرنا المولى سبحانه وتعالى أنّ نبتعد عنها، لأنَّها إذا وقعت عمَّ الخطب جميع النَّاس؛ صالحهم وطالحهم، محسنهم ومسيئهم
شرح المفردات:
(القائم على حدود الله): المستقيم مع أوامر الله تعالى، ولا يتجاوز ما منع الله تعالى منه، والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر.
(الواقع فيها): التَّارك للمعروف المرتكب للمنكر.
(استَهَمُوا) الاستهام: طلب السَّهم والنَّصيب، والمراد به: الاقتراع، أي: اقترعوا ليأخذ كلٌّ منهم سهماً؛ أي: نصيباً.
(أخذوا على أيديهم) يقال: أخذتُ على يد فلان: إذا منعتَه عمَّا يريد أن يفعله، أي: منعوهم من خرق السفينة.
توجيهاتٌ من الحديث :
إنَّ ضربَ الرَّسول صلَّى اله عليه وسلّم لهذا المثل البليغ في هذا الحديث الشريف، ليؤكّد بوضوح على معانٍ ومفاهيم تربوية وفكرية ودعوية نوجزها فيما يلي:
-إنَّ ضرب المثل من الوسائل التربوية والدَّعوية النَّاجعة، ذلك أنَّه يقرّب المعقول إلى صورة المحسوس، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . ( العنكبوت:43). فكم من رجل تشرح له الأمر مراراً وتكراراً، فإذا ضربت له الأمثال فَهِمَ هُوَ المطلوب، واختصرت أنتَ الوقت والجهد.
-الدَّعوة إلى أهمية العيش المشترك بين أطياف المجتمع المختلفة، فالكلُّ يعمل تحت سقف هذا المركب مؤمناً بضرورة التآلف والتّحالف، ويسعى لحمايته من كلِّ فكر شاذ أو تصرّف منحرف، فلا نضمن سلامة هذا المركب من الخطر الخارجي إلاَّ إذا كان الحصن الدَّاخلي آمناً مطمئناً.
-إثبات القُرعة وأنَّها جائزة، وقد وردت القرعة في آيتين من كتاب الله تعالى، الأولى في سورة آل عمران، الآية: 44: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }، والثانية في سورة الصافات، الآية 141: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ...}، وفي استعمال القرعة في الاختيار بين أكثر من رأي أو شخص فرصة للدُّعاة لحفظ الأوقات وسرعة إنجاز الأعمال، واختبار التفاعل وحظ النفس والإيثار.. وقد ذكر الإمام ابن رجب في كتابه ((القواعد الفقهية)) جملة من الأشياء التي تستعمل فيها القرعة.
-إنَّ السُّكوتَ عن الخطأ والظلم والاستبداد بالرَّأي والاضطهاد والفساد سيقوّي شوكة أصحابه، ليصبح لهم نفوذ في المجتمع وتأثير على أفراده، فيصطبغوا بألوان الفساد والزّيغ والفسق، ليتحققَّ فيهم قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}. (الزخرف:54).
-ينبغي على أفراد المجتمع أن يكونوا إيجابيين مبادرين إلى الخير والإصلاح لا سلبيين متقاعسين؛ فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إن رأى النَّاس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)). (رواه أبو داود و الترمذي). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرّجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودَعْ ما تصنع، فإنَّه لا يحل لك، ثمَّ يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا
ينبغي على أفراد المجتمع أن يكونوا إيجابيين مبادرين إلى الخير والإصلاح لا سلبيين متقاعسينيمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض))، ثمَّ قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة:78-81).
-وفي الحديث دعوةٌ صريحةٌ إلى فضيلة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة؛ هذه الفضيلة التي أصّلتها الآيات القرآنية الكريمة؛ منها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (آل عمران:104). وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (آل عمران:110).