بخيرة الأوقات تحيا الدعوات

الرئيسية » بصائر الفكر » بخيرة الأوقات تحيا الدعوات
alt

قدْ يَعدُّ البعضُ الحديثَ عن مَغانِمِ الانضواءِ في صفوفِ الجماعةِ والعملِ تحتَ ألْويتها حَديثَ مُشَكِّكٍ بطهارةِ الصفّ وإخلاصهِ، لكنَّ البعضَ الآخرَ يراهُ حرصاً على هذه الطهارةِ وتسديداً لهذا الإخلاص في كلِّ حينٍ.
ولا يُنْكِرُ كُلُّ من تعاطى العملَ الدعويّ -بعد أنْ تعقّدت الحياةُ ومتطلّباتها- أنّ الدعوات اليومَ بحاجةٍ إلى من يُقدِّمُ لها خِيرةَ الأوقاتِ والجهود لتكون قادرةً، لا على الحياةِ والاستمرارِ فحسب، وإنّما لريادةِ المَشْهَد، وقيادةِ الجموعِ. أما والحالُ كذلك، فكان من الطبيعي أن تُبنى المؤسساتُ الدعويّة على جهودِ الرّجالِ، وتُمزجَ لَبناتها بأرَقِ لياليهم وحبّات العَرَق من جباههم.

هم الرجال !!
لِيَعُدْ كلّ داعٍ إلى حديثِ البداياتِ، يومَ أنْ كانَ الشعارُ: أنّ العملَ لدينِ الله تكليفٌ وتشريفٌ في آنٍ معاً، يومها كانت صورةُ ذلك الأعرابيّ بين يدي رسول الهُدى صلّى الله عليه وسلّم حاضرةً لا تغيب، إذْ لم تُطِق نفسُهُ أن يرى له قِسْماً من فيءٍ يوزّعهُ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ليصدَحَ : (ما على هذا اتبعتُكَ ولكن اتبعتك على أن أُرمى ههنا -وأشار إلى حلقه- بسهمٍ فأموتَ فأدخلَ الجنةَ)، قال: ((إنْ تصدقْ اللهَ يصدقكَ))، فلم يلبث قليلاً حتى أُتيَ به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وقد أُصيبَ حيثُ أشار، فقال عليه السلام: ((أهوَ هوَ؟!))، فقالوا: نعم. قال: ((صدقَ اللهَ فصدقَهُ))[أخرجه النسائي]، وأَعْظِمْ بها من شهادةٍ، وأكْرِمْ بهِ من صِدْقٍ.
هو التجرّدُ للفكرةِ لا غير، واستقبالٌ لغُرمِ الانتظامِ لا غُنْمِهِ بنفسٍ راضيةٍ، في واحدةٍ من التجليّاتِ التي رسمَ أولَ خطوطها مُصعبُ بن عمير رضي الله عنه فيما رُوي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إذ قال وهو صائم مرةً: (قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفّن في بردة إن غُطّي رأسُه بدتْ رجلاه، وإنْ غُطي رجلاه بدا رأسه. وقتل حمزة، وهو خير مني. ثم بُسِطَ لنا من الدنيا مابسط ، أو قال: أُعطينا من الدنيا ماأعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا)[أخرجه البخاري]، في حساسيّةٍ عزَّتْ، وهم من هم، رجالَ العمل والتضحيات!!

إن أُعطوا .. وإلاّ سخطوا !!
وعَوداً على الأحرفِ الأُول، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}[التوبة-58]، في تصريحٍ عن سلوك المنافقين؛ فهو التصاقٍ بالصّف لجني المكاسب لا أكثر!! وحسبكَ أن تشهدَ التقلّب المفضوح لهؤلاء وتلوّنهم الممجوج؛ {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴿72﴾ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿73﴾}[النساء]، فهو العطاءُ حيثُ يكمنُ سرُّ البلاءِ؛ مَنْحاً أو حرماناً!!
وهيَ صفةٌ قد يُدمغُ بها الذي اعتادَ على الأخذِ فقط؛ في أنانيّةٍ مُفرطة، وتحويلِ نزاهةِ الدعوةِ إلى مَسْخٍ من المكتسبات الماديةِ والمعنويّةِ على السواء، دونَ التفاتٍ لقدسيّةِ تلك الرسالة، وثِقَلِ هذه الأمانة. ولم يزل الصفّ اليومَ ينفي هؤلاءِ من أشباهِ ابن ذي الخُويصرة عند كلّ هزّةٍ؛ في أيام المحنِ حيناً، وفي أيام المِنَحِ أحياناً كثيرة.
فالتَقوّتَ على تجريمِ الصّف وجَلْدِهِ دوماً شكلٌ من أشكال الالتفافِ وسؤالِ العطايا وإنْ بانت صورةَ نصحٍ أو حرصٍ، ولا يكادُ ابن سلولٍ يغيبُ حين تُذكرُ هذه المخاضة.
قوةٌ .. قد يشوبها ضعف !!
إنّ الحديثَ عن هذه الملامحِ المثاليةِ التي لا تُؤَثِرُ فيها المنحُ والمكاسبُ هو حديثٌ عن المستحيل، ربّما!! كيفَ لا، وقد ظهرت هذه الشّائبة في صفَّ أنقى الأجيال قاطبةً، وبين الصَّفوةِ المختارةِ منهم، يوم بدرٍ الكُبرى، ليبينُ ثَمَّ الضعفُ البشريُّ رغم قوّةِ الصفّ ومتانته {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}[آل عمران-152]، فالدّروسُ تَترى؛ تُعلّمُ وتقوّمُ وتبني، ليُتوّجَ الدرسُ بنَزْعِ الدنيا –متمثّلةً بالأنفال حينها- من القلوب؛ فإنْ هم سألوا يومها عن الأنفال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}[الأنفال-1]، يأتي الجواب من عندِ اللهِ بعد أربعين آيةً، ليشي بعتابٍ لم يكن يوماً مثلُه من قبلُ، ولتحمل الآيات فيما بين الآيتين الأولى والواحدة والأربعين من سورةِ الأنفالِ العديد من العبر والتعاليم، وتُختَم: أنّكم أخطأتم الوجهةَ يومها، فلتُصححوا {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال-41]، فلا يليقُ بأصحابِ الدعوات، مهما تبدّل الزمان؛ أن ينشغلوا بالأدنى على حساب الذي هو خير!!
ولا يظنّنَّ سائرٌ أنَّ بين السطورِ تبريراً لهذا الضّعفِ أو تسويغاً له، بل هو تأكيدٌ على ما هتفَ بهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}[الشعراء-109]، فهي انتفاضةٌ لفكرةِ الحقّ، ابتغاءً لمظانّ أجرِ الآخرةِ لا الدنيا.

كُنْ خالداً أو .. أبا عُبيدة !!
وفي إرثِ الأولين لعَجَباً، واحدُهم وطّن نفسهُ أنْ لا يكون له نصيبٌ ماديّ أو معنويّ من دعوتِهِ، ولتشهد ما في سِيَرِهم من سلوكٍ مرضيٍّ من بعد دُرْبَةٍ على يدِ النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلكم خالدُ بن الوليدِ رضي الله عنه يتقلّبُ جندياً وقائداً في الصفّ، لا يصدّهُ منصبٌ أن يكون قائداً عاملاً، بعيداً عن هالةِ السلطةِ وزخرفها، ثم لا يلبثُ أن يكونَ جندياً، ولا يثنيه ذلك أن يكونَ كأفضلِ ما يكونُ الجُند طاعةً وبذلاً واجتهاداً. وما بين المنصبين سوى رسالةٍ من أمير المؤمنين؛ أنْ كُنْ جندياً يا خالد !!
ولتمضي من بعدُ أيامٌ ويُقبل أمير المؤمنين بثوبِهِ المُرقّع ماشياً ليفتحَ بيت المقدس، وليشهدَ لأمير الجُندِ من بعدِ خالدَ أنْ "غَيّرتنا الدنيا كُلّنا إلا أنتَ يا أبا عُبيدة"[تاريخ ابن عساكر]، لِتَشيَ لجيلٍ قادمٍ بأيّ أمرٍ فُتحت الأرض على أيدٍ وقلوبٍ طاهرةٍ كتلك.

نَعيمٌ لا يُدْرَكـُ بالنعيمِ ..
إنَّ فيما تقدَّمَ لأجلى رسالةٍ لمريدي العملِ؛ أنَّ الدَّعوةَ وإنْ فاضتَ يوماً على أهلها أيامَ المِنَحِ بالغنائمِ، فذا يُعَدُّ استثناءً لا أصلاً، واقرأ إنْ شئتَ في سيرةِ الفاروق وأمنيته وهو على فراشِ الموت، إذ قال: "وددتُ أنّ ذلكَ كفافاً، لا عليّ ولا لي"[أخرجه البخاري] !!
ولمّا كان حالُ سلفٍ مضوا أنّ أيديهم وعيونهم تتسابقانِ في الغضَّ من أن تعدوَ على زينةٍ من متاعٍ أو منزلةٍ، تُنقِصُ الأجرَ –فيما يظنون- أو تُذهب البركةَ وتخلخل الصفَّ وتشتّتُ الجهدَ وتُدخلُ الدنيا بين أهلِ الآخرة، كانَ الخَلَفُ أولى بهذا السباق، ليعلموا أنّهم قد تركوا من بعدهم رجالاً يزاحمونهم على الآخرة.
ويكفي للروّادِ صورةُ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فيما روتْ عائشةُ رضيَ الله عنها أنّهُ عليه السلام كان لا يكادُ يفيقُ مرّةً بعد أخرى من إغمائهِ في مرضه الذي قُبضَ فيه حتى يسأل عن سبعةِ دنانيرَ كانت في بيته أنْ تُنفق ويُتصدّق بها، ولم يكن عذرها بانشغالها بمرضه ليشفع، فيقول: (ما ظن محمّدٍ لو لقي الله وهذه عنده)[الهيثمي-مجمع الزوائد]، وعلى مثلِ ذلك، فليلقَ كلٌّ ربّه !!
ومنذ اليومِ الأوّل للانتظامِ في صفوف الدّعوةِ يعتادُ الأخُ ويتعلّمُ كالفاتحةِ من الكتاب أنّه كما للدّعوةِ نصيبٌ من جُهدِه ووقته، فلها من مالهِ أوفى نصيبٍ وأجزاهُ. أما وقد حيلَ بيننا وبين بَذْلِ دمائنا في بقاعٍ شتّى، فلا أقلّ من بذل المال. وفي دعاءٍ لا ينقطع، يردّد القومُ: اللهمّ خُذْ من أموالنا، ودمائنا، كلّ يومٍ حتى ترضى...
لَعمْرُكَ ما يُغني الثراءُ عن الفتى              إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …