للتواصل مع الأبناء ..فنون

الرئيسية » بصائر تربوية » للتواصل مع الأبناء ..فنون
alt

كثيراً ما نسمع من أفواه أبنائنا قولهم : أنتم لاتفهموننا ...لا تشعرون بنا ... لا تقدّرون ظروفنا...تستعجلون في إصدار الأحكام علينا...أمنيتنا أن يتفهّم الوالدان مشاعرنا ... عصركم يختلف تماماً عن عصرنا .......
إنَّهم فعلاً يعانون من انقطاع حبل التواصل الذي يربط بين جيلين، ممَّا يتسبب في خلق ظاهرة صراع الأجيال ، وقد أشار عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه حيث قال: (لا تربّوا أبناءكم على عادات زمانكم لأنَّهم جاءوا لزمان غير زمانكم) أو قد ينقطع التواصل أيضا بين ذات رجل ناضج أو أم ناضجة وابن أو تلميذ لايملك القيم المبلورة ويحتاج لمن يعينه ، فالأبناء لديهم معلومات ومكتسبات ويبحثون عن حضن دافئ يحتويهم ليقيِّم معهم هذه المكتسبات أو القيم والمعلومات، فيوجههم وينمِّي قدراتهم أو حتى يحتاجون لمن يناقش معهم ويحاورهم بدون جرحٍ للمشاعر باستخفاف أو استصغارٍ أو استفزاز، كي لا يعيشوا أجواء الرِّيبة والشك والإحباط والنَّقد .قضية التواصل قضية محورية في تربية الأبناء وفي توجيههم وإسعادهم وإصلاحهم، لأنَّ التواصل الفعَّال هو أسلوب حياة .

فمن حقهم علينا إذن أن نحسن التواصل معهم، وأن نعطف عليهم ونتلمس الأعذار لهم ونتفهم احتياجاتهم ومشاعرهم وعقلياتهم لنأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان ، فقضية التواصل قضية محورية في تربية الأبناء وفي توجيههم وإسعادهم وإصلاحهم، لأنَّ التواصل الفعَّال هو أسلوب حياة .
كيف ذلك...؟؟ وهل فعلاً يمكننا مدّ الجسور وإيجاد لغة مشتركة للتفاهم والتَّعايش على المستوى الأسري والاجتماعي ؟؟ وهل بإمكاننا إقامة صلاتٍ متينة وجيّدة ومستمرة مع أبنائنا ؟ّ
لنتعرّف على فنون ومهارات التواصل ، ومدى أهميته في حياتنا لنحقّق الغايات والأهداف المنشودة ، ونتعرّف على أهم السبل التي نحقّق بها تواصلاً جيّداً وفعَّالاً ، وهي كما يلي :

أولاً: زرع الثقة في نفوس الأبناء سواءً ثقتهم بأنفسهم أو ثقتهم بوالديهم ممَّا يدفعهم للتَّعبير- وبكل أريحية وشجاعة - عن مشاعرهم وآمالهم وأفكارهم وتطلعاتهم ، على أن تكون الثقة الممنوحة للابن غير مطلقة ، فلا إفراط ولا تفريط . وبزرعنا لهذه الثقة المتبادلة نجني علاقة قويّة وطيدة قوامها الحبّ والحنان والعطف والرَّحمة، وكذلك الصَّراحة والوضوح والذي نفتقده في كثير من العلاقات الأسرية، ممَّا نتج عنه ضياع الكثير من الأطفال والأبناء، لأنَّهم لم يجدوا من يثقون به ويثق بهم ليحتويهم ويستوعبهم كي يُدْلوا بدلوهم بكل ما يجول في خاطرهم وفي جميع الأمور الحياتية ، فازرعوا الثقة لتجنوا علاقة حميمية بدلاً من تحويل بيوتكم إلى ثكنات عسكرية لايُسمع فيها إلّا الأوامر والنواهي والتحقيقات : افعل ولا تفعل ؟ مع من كنت ؟ وإلى أين خرجت ؟ وماذا فعلت ؟ وبذلك يشعر دائماً أنَّه متّهم  ومُدان، هذا إن لم يخلو المشهد طبعاً من الصِّياح والصُّراخ والمشادّة أثناء الحساب والتَّحقيق والتتبع منذ دخوله البيت إلى أن يخرج منه دون لمسة حنان أو همسة حب أو حتَّى ذرّة ثقة .
وبذلك يتحوَّل البيت إلى بيئة طاردة لابيئة جاذبة لانعدام التواصل الجيد والفعال، ذكر الإمام النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، حيث قال: ( كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول ).

الأمر الثاني في التواصل الفعال : افهموا أبناءكم وأطفالكم وشخصياتهم ، تعرّفوا أنماط شخصياتهم وتعاملوا معهم وفق منظومتهم الشخصية لتتمكنوا من معالجة مشاكلهم وتعديل سلوكهم وتوجيههم، كلٌّ حسب شخصيته ، فقد تواجه في حياتك طفلاً عنيداً وشاباً مندفعاً وفتاةً معتدّةً بنفسها وصبيةً مرهفةَ الإحساس وفتىً لايقتنع إلّا بالحوار وآخر ينبذ النقد المباشر ...وهكذا.
إذن يجب أن تتمتع بنوع من التفتح الذّهني والمرونة النفسية والعقلية في تواصلك مع الأبناء والفهم العميق لشخصياتهم، وافسح لهم مجالاً للاعتراض والمناقشة والمحاورة لتعزّز فيهم الثقة بالنفس والقدرة على الحوار مع لفت انتباههم إلى مراعاة أدب الحوار والخلاف وتقدير الكبير واحترام الرَّأي الآخر، وحذارِ أيها الأحبّة، أسلوب القهر والقمع والتشدد بالرَّأي ، فالعملية أرقى وأجمل من أن تكون فرعونية  ( لا أريكم إلاَّ ما أرى ) هذا الأسلوب القمعي لا يخلق إلاَّ إمّعات وشخصيات ضعيفة مهلهلة .
ولابدَّ أيضاً من النزول إلى مستوياتهم العقلية؛ حيث قال صلَّى الله عليه وسلَّم : ((من كان له صبي فليتصابّ له)) جاء عن ابن عساكر عن معاوية من الجامع الصغير . ولا تحاوروا أو تتواصلوا مع ابن الخمس سنوات كمن هو ابن 15 سنة، فذاك طفل واحتياجاته واهتماماته تختلف تماماً عن المراهق أو الشاب الذي توسعت مداركه وتشعبت قضاياه .

الأمر الثالث لإتقان فن التواصل : اختيار الوقت المناسب وأيضاً المكان المناسب  لطرح قضية ما ومناقشتها مع مراعاة الأسلوب واللغة المناسبين وبذلك نجعل تواصلنا معهم مرغوباً ومحبوباً ، فإن أردت مثلاً أن تناقش معه سبب تراجعه في مستواه الدراسي بعد أن أحضر لك صحيفة درجاته لا تنهال عليه بالضرب والشتم، بل عليك أن تتفهم وبكل هدوء وحب أصل المشكلة -لأنَّك إن شخصت المرض فسوف تساهم في نصف العلاج - مع اختيارك للوقت والمكان المناسبين ، أشعره بالأمان ثم تعرّف على نفسيته وعلى الظروف التي أحاطت به فترة الاختبارات، وهل كان يشعر بالأمن الداخلي والخارجي أم أنّ هناك منغصات، حاوره وناقشه بأسلوب راقٍ ، استخدم معه أسلوب التعزيز والتحفيز وابتعد تماماً عن أسلوب التهديد والوعيد . فقل له مثلاً : إن تحسّن مستواك الدراسي فسأصطحبك في رحلة مع أصدقائك إلى مكان تختاره أنت وتحبه أو سأحضر لك هدية قيّمة ... ولا تقل له : إن لم يتحسن مستواك الدراسي فسأحرمك من رؤية أصدقائك، أو من المصروف لمدة شهر ... فشتان بين العبارتين ومدى تأثيرها على النفس البشرية ...ولكم أن تحكموا  .

أمَّا رابعاً : لابد من استقراء أحوال أبنائنا لفهم احتياجاتهم، وألّا نعتمد دائماً الخلفية المسبقة التي رسمناها عنهم لنفسر على أساسها كل مانسمعه عنهم أونراه عليهم ، وبناءً عليه يجب أن يكون تواصلنا حقيقياً فعالاً ،لا تواصلاً عادياً أو أقل من العادي أو سيئاً- إن صحّ القول- فهناك من يعتقد أنَّ وجوده بين أبنائه وفي محيط أسرته هو في حدِّ ذاته تواصل ، فتراه مثلاً يجلس أمام التلفاز بصمت رهيب يحتسي فنجان القهوة غير مبالٍ لما يدور حوله من أحاديث للأبناء أو خصومات أوتصرفات أو مشاعر في لقاءٍ أسري سامج ليس فيه حرارة ، ليس فيه دفء، ليس فيه حنان ! وكأنَّ دوره انتهى عند عمله خارج البيت لطلب الرِّزق وفي البيت لا يبحث إلّا عن حقه غير مبالٍ بالواجبات الملقاة على عاتقه ومتناسياً حقّ زوجته وأولاده والتي أهمها التواصل الحقيقي معهم، وإن أراد ذلك الأب أن يتجمَّل على أهل بيته يوماً فإنَّه يدخل عليهم محمّلاً بالهدايا وما لذّ من أطايب الطعام على أن يتم توزيع الغنيمة على الأفراد في ثوانٍ معدودة دون معرفة سبب هذا الكرم والهدف منه، وفي أجواء تخلو من المحبَّة والبهجة والسرور.
هذا ليس تواصلاً إخوتي الأحبَّة، لأنَّه بعيد كلّ البعد عن الإحساس بالأبناء ومشاعرهم وقضاياهم واستقراء أحوالهم ، وهناك بعض من الآباء من يجلس مع أبنائه يناقش موضوعاً ما كزلزال اليابان، أو اقتصاد أميركا، أو مجاعة أفريقيا دون التطرق لاحتياجات الأبناء ومشاكلهم، وهو يعتقد أنه بذلك يحسن التواصل ...يقول ابن القيم الجوزية في كتابه : تحفة المودود بأحكام المولود : ( ... وأكثر الأولاد إنَّما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم ...)
صحيح أننا يمكن أن نستثمر هذه المواضيع في غرس بعض الأفكار والمعتقدات والقيم التربوية وتعويدهم على كيفية طرح المواضيع ومناقشتها ... إلخ، ولكن ليس كلّ يوم وليس ذلك التواصل الأسري المطلوب في التعرف على نفسياتهم وطموحاتهم ورؤاهم ، نحن بحاجة لآباء ومربين يجلسون مع الأبناء وهم يعرفون لماذا هذا اللقاء ؟ وما الهدف المراد تحقيقه ؟
ومن النَّماذج السيّئة للأساليب الخاطئة في التواصل أنَّه يسمح لأبنائه أو تلاميذه بالتحدّث إليه دون أن يبدي اهتماماً لحديثهم، وكأنَّه يقول لهم : لا أريد أن أسمع شيئاً ، أوتراه لا ينظر إلى المتحدث، أو ينشغل عنه بشيء ما، أو حتى يسكته صراحة بالكلام أو الإشارة أو النظرة ، في حين أنَّه يمكن أن يستمع لصديق له أو يتحدث إليه عبر الهاتف، أوفي زيارة لساعة متواصلة أوساعات دون كللٍ أو ملل !!
لماذا ؟؟ وابنك هو الأحق بك والأولى باهتمامك ، اهتم بما يقوله لك وتفاعل معه وهو يعبر لك عن نفسه ومشاعره وأفكاره، انظر إلى عينيه، اربت على كتفه، تفاعل مع حركاته ففي ذلك إشعار منك بتفهمه واحترامه وقبوله فتلك احتياجات عنده أساسية  فلا تهملها . يقول ابن القيم الجوزية في كتابه : تحفة المودود بأحكام المولود : ( ... وأكثر الأولاد إنَّما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم ...) فلا تكن سبباً في إفساد ابنك فلذة كبدك بتقصيرك في تواصلك الصَّحيح معه، بل عليك أن تقيّم درجة التواصل لديك بين الفينة والأخرى لتحسّن من مستوى هذا الفن دائماً وأبداً، وحتى يتعلَّم أبناؤك التواصل الصَّحيح  مع أقاربهم وذويهم وأصحابهم،  وأيضاً مع محيطهم ومجتمعهم  ومع أسرهم مستقبلاً .

وختاماً : ليس هذا الأمر بالسَّهل ولكن مع الإرادة والعزيمة والتَّصميم والوعي وقبل كل شيء التوكل على الله  ستصبح الأمور كلها سهلة بل ستصبح العملية برمّتها ممتعة ، فعليكم بالصَّبر والتأني ولا تيأسوا ، اجعلوا من ساعات يومكم كلّها تواصلاً مع أبنائكم وأسركم، في ساعات العمل يمكننا أن نتواصل بالسّؤال عنهم ، وفي ساعات اللعب نلهو بعض الشيء معهم ، وساعة العبادة نوجّه ونشرح ونمثل القدوة لهم ، وساعة الدّراسة نعاونهم وندرس معهم ، وفي ساعة الاستجمام والرَّاحة نتجاذب أطراف الحديث ونستثمرها كفرصة لزرع المثل والقيم مع إشاعة جو من الفرح والنكتة والمرح، وساعة النوم نحنو عليهم ونشعرهم بحبنا وعطفنا، وعند الاستيقاظ نصلي سوياً ونساهم في بث روح الهمَّة والعزيمة ونحيا لحظات الأنس بالله سوياً من أذكار واستغفار، ثم نلتفّ جميعاً حول مائدة الإفطار نشكر الله على نعمه العديدة ونشعرهم أنَّ وجودهم معنا من أعظم النعم علينا ... كلّ ذلك وما على شاكلته هو أيضاً تواصل ، أمّا إن لم تستطيعوا ذلك لأنكم مثقلون بالأعمال والمواعيد والبرامج، فلا تهملوا الاستماع إليهم ومحاورتهم والتواصل الحقيقي معهم حتَّى لو ساعة في اليوم أو نصف ساعة، المهم كيف تكون تلك السَّاعة، وكيف يكون التواصل فيها فعالاً مع أفكارهم وتطلعاتهم وأهدافهم ورؤاهم ومشاعرهم ومعاناتهم .
واعلموا أيُّها الأحبَّة، أنَّ نظرة الشَّوق لأبنائكم تواصل ، وهمسة الحب تواصل ، ولمسة الحنان تواصل ، وابتسامة الرِّضا تواصل، وحين نجمعهم على مائدة حديثٍ وحوارٍ ونقاشٍ لهُو أهمُّ وأجمل تواصل .... مع فلذات أكبادنا ... جيل المستقبل الواعد .

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …