تتبع عيوب الآخرين … مقبرة النفس

الرئيسية » بصائر تربوية » تتبع عيوب الآخرين … مقبرة النفس
alt

((كنا نحدِّث أنَّ أكثرَ النَّاسِ خطايا أفرغُهم لذكرِ خطايا النَّاس)).. مقولة خالدة لابن سيرين يشخِّص فيها أحد الأمراض التي استشرت بين الناس والدّعاة من بينهم، وهو الانشغال بعيوب الناس عن عيوب النفس، ذلك المرض الذي يعبّر عن قصور تربوي كبير، فتجد الإنسان يترك لنفسه العنان في انتقاد النَّاس والهجوم عليهم، تاركاً عيوب نفسه، رغم أنَّ كلَّ إنسان لا يخلو من نقص، وأن من لم يتعهد النقصان في نفسه فهو في نقصان دائم.

ويعدّ الانشغالُ عن عيوب النفس بالخوض في عيوب الآخرين من أخطر الأمراض القلبية التي يُصاب بها الدَّاعية والمربّي، حيث يرى كمالاً في نفسه، ويغفل عن عيوبه، وينسى أنَّ الله إذا أراد  بعبده خيراً صرفه إلى الاعتناء بعيوب نفسه، ومحاولة إصلاحها، فتجده دائماً منشغلاً بنفسه، حريصاً على تزكيتها، وقد نوَّه بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: ((يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه))، فالإنسان -لنقصه وحبّ نفسه- يتوفّر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر، ولو أنَّه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لتتبع عيوب الناس، لكفّ عن أعراض النَّاس وسدّ الباب إلى الغيبة.

ولقد تعلّقت قلوب الجيل الرَّباني من الصَّحابة والتّابعين بالله دائمًا، وانشغلوا بأنفسهم التي هي أعدى أعدائهم؛ من أجل الله سبحانه وتعالى، فانشغلوا عن كلّ الشواغل بالنَّفس التي بين جنبيهم، يهذبونها ويربونها؛ لأنَّهم فهموا أنَّ تربية الفرد لنفسه وتعاهدها أولاً بأول أمر لا بدَّ منه لمن يريد دوام الاستقامة على أمر الله، ولأنَّهم أدركوا حقيقة هذه النَّفس وطبيعتها، كما يقول الآجري: (إذا أطمعتها طمعت، وإذا آيستها أيست، وإذا أقنعتها قنعت، وإذا أرخيت لها طغت، وإذا فوضت لها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت).

وإذا كان المسلم العادي يحتاج إلى تهذيب نفسه والانشغال بها وترك الانشغال بعيوب الناس، حتّى تقوى صلته بالله، فما بالنا بالدُّعاة والمصلحين وأصحاب الهمم الذين يحملون همّ الدعوة والإصلاح ويسيرون بين النَّاس هنا وهناك لنشر دعوتهم، فلهم أشدّ حاجة إلى تهذيب أنفسهم حتَّى يستطيعوا أن يهذّبوا غيرهم، ولهذا رأينا الإمامَ عليّاً رضي الله عنه ينصح الأئمَّة والدُّعاة والمصلحين فينادي عليهم قائلاً: (من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومهذّبها أحق بالإجلال من معلّم النَّاس ومهذبهم).

فكم من أوقات يقطعها الدُّعاة في غفلة وانشغال عن أنفسهم بالفراغ من طاعة، أو بالانشغال ببعض المباح، أو كلّ ما لا ينفع النفس في أخراها، واعتبر التابعون ذلك قتلاً للنفس في قاموسهم، كان الفضيل بن عياض يقول في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، قال: (لا تغفلوا عن أنفسكم، فإن من غفل عن نفسه فقد قتلها).

يقول الإمام أبو حاتم بن حبان -رحمه الله-: (الواجبُ على العاقل لزومُ السَّلامة بترك التجسّس عن عيوب الناس، ومع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإنَّ من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه).

ما أحوج الدُّعاة والمتربين في زماننا هذا إلى هذا الفقه التربوي الرَّائع حتَّى نكون  شديدي الانتباه في تربية أنفسنا، فكم نخرق من حرمة، وكم نهتك من ستر، وكم نقع في عظيمة، عندما نشغل أنفسنا بعيوب الآخرين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …