وقد تناول علماء الأمَّة على اختلاف تخصصاتهم الحديث عن هذه الغزوة، كلٌ يبحث في جانب من جوانبها المتعدّدة؛ سواء كان ذلك من حيث الرّواية أو الدّراية، أو الدروس والعبر، أو الحكم والغايات، وقد تتفق الرّاويات أو تختلف في جزئية من جزئياتها، أو حيثية من حيثياتها، أو فصل من فصولها، لكنَّها جاءت متفقة حول فصل مهم من فصولها ألا وهو ..
موقعة حمراء الأسد .. لم يحدث فيها حربٌ .. لكنَّها عملية جريئة دعا إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم أصحابه؛ حيث تروي كتب السيرة النبوية أنَّ أبا سفيان لمَّا رجع من غزوة أُحد، هو وأصحابه، حتَّى بلغوا الرَّوحاء، نَدِمَ وهمَّ بالرُّجوع، فعن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبَّاس قال: (لمَّا رجع المشركون عن أحد، قالوا: لا محمَّداً قتلتم، ولا الكواعب ردفتم، بئسما صنعتم، فارجعوا).. وورد أيضاً أنَّ كفار قريش قالوا لأبي سفيان : (أحين قتلناهم وهزمناهم ولم يبق إلاّ الفل والطريد ننصرف عنهم، ارجع بنا إليهم، حتَّى نستأصلهم فعزموا على ذلك).
فبلغ ذلك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلّم، فندب أصحابه للخروج في طلبه، وقال: ((لا يخرج معنا إلاَّ مَنْ حضر بالأمس))، فخرج صلَّى الله عليه وسلّم في سبعين رجلاً حتّى بلغوا حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر، فكان لهم ما أرادوا، وهم الذين وصفهم الله سبحانه بقوله في كتابه:
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ } فهم الذين لبُّوا نداء الله ورسوله؛ قالت السيدة عائشة فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه : (لمَّا انصرف المشركون من أحدٍ، وأصاب النبي صلَّى الله عليه وسلّم وأصحابه ما أصابهم خاف أن يرجعوا، فقال : ((من ينتدب لهؤلاء حتَّى يعلموا أنَّ بنا قوَّة)).
وخرجوا في أعقاب المشركين إلى "حمراء الأسد" بعد هزيمتهم في غزوة "أُحد" مع ما كان بهم من آلام وجراح، وبذلوا غاية جهدهم، والتزموا بهدي نبيهم... فربَّما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي ولا يجد مركوباً، فربَّما يحمل على الأعناق؛ وكلّ ذلك امتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة في الجهاد .
خرج صلَّى الله عليه وسلّم في سبعين رجلاً حتّى بلغوا حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر، فكان لهم ما أرادوا
فكانت النتيجة الرَّبانية ... {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } ..
فقد رجع الصَّحابة رضوان الله عليهم من "حمراء الأسد" إلى "المدينة" بنعمة من الله بالثواب الجزيل وبفضل منه بالمنزلة العالية، وقد ازدادوا إيمانًا ويقينًا، وأذلوا أعداء الله، وفازوا بالسَّلامة من القتل والقتال، واتبعوا رضوان الله بطاعتهم له ولرسوله.
وعند الوقوف على هذه الفصل الأخير والمهم من غزوة أحد، وما وقع في حمراء الأسد نجد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ..
- استطاع بهذه العملية الجريئة أن يمحو آثار الهزيمة في موقعة أحد، يقول سعيد حوى في كتابه (الرسول صلَّى الله عليه وسلّم) : (لم يقع يومها حرب، ولكن هذه العملية الجريئة، غسلت آثار أحد كلها وبشكل سريع؛ إذ كانت معركة أحد يوم السبت وكان خروج الجيش هذا يوم الأحد، وبقي معسكراً في حمراء الأسد طيلة ثلاث ليال ونزل القرآن بعد ذلك فربَّى المسلمين ووعظهم وغسل كلّ الآثار النفسية للهزيمة). فكان عليه الصًّلاة والسّلام مثالَ القائد الذي يسعى إلى حلّ المشكلات اليومية والمعضلات فورَ حدوثها ويقطع دابر الرّكون واليأس، ويقضي على أسباب الهزيمة.
-أقام في أرض المعركة بعد أن انتهت، تفقَّد خلالها الجرحى والشهداء، وأمر بدفنهم، ودعا ربَّه وأثنى عليه سبحانه، وأرسل علي ليتتبع خبر القوم، وهذا من فقه سنن الله تعالى في الحروب والمعارك، فقد جعل سبحانه من سننه في خلقه أن جعل للنصر أسباباً، وللهزيمة أسباب، فمن أخذ بأسباب النصر، وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى حقيقة التوكل نال النصر بإذن الله عزَّ وجل، كما قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (سورة الفتح، آية:23).
كان عليه الصًّلاة والسّلام مثالَ القائد الذي يسعى إلى حلّ المشكلات اليومية والمعضلات فورَ حدوثها ويقطع دابر الرّكون واليأس، ويقضي على أسباب الهزيمة
-عندما خرج إلى حمراء الأسد أراد أن يعطينا دروساً تربوية في:
1.أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم.
2.الكرَّة تكون للمسلمين على أعدائهم متَّى نفضوا عنهم الضَّعف والفشل واستجابوا لدعوة الله ورسوله.
3.أنَّ الابتلاء والمحن سنة من سنن الله يمحّص بها عباده ليطّهر الصف الإسلامي من كل دخيل.
4.الجرأة في الدفاع عن الحق، وعدم الاستكانة إلى النفس.
مراجع للاستزادة :
-الرّسول صلَّى الله عليه وسلّم – سعيد حوى
-السيرة النبوية دروس وعبر في تربية الأمة - علي الصّلابي