أن أكون مُلِمًّا بالظروف التي نشأت فيها دعوتي، وأن أتعرف على الجماعة التي حملت هذه الدعوة المباركة، هي من علامات الانتماء الصادق للدعوة، كما أنّه لا بُدَّ أن أتعرف على خصائص هذه الدعوة مما يزيد ويحقق الانتماء الصادق لها؛ خاصةً وأننا في وقتٍ نشهد فيه صراعًا قويًّا في القيم والأخلاق، بين الذين ينادون بالسير في ركاب الغرب، وبين نداء الفطرة ونداء العقيدة الإسلاميّة المركوزة في نفوس المسلمين.
وكان طبيعيًّا أن تكثر الأسئلة عن مرامي الدعوة، وكُنهها، وعن الطرق التي يسلكها أهلها والقائمون بها، وعن خصائصها.. ويجيبنا الإمام البنا رحمه الله تعالى عن هذه الخصائص في رسائله فيقول:
"أخص خصائص دعوتنا أنّها ربانيّة عالميّة..
أمّا أنّها ربانيّة؛ فلأنّ الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانيّةً كريمةً تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانيّة الفاضلة وجمالها.
نحن الإخوان المسلمين لنهتف من كلٍّ قلوبنا: "الله غايتنا"، فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21]، وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانيّة التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعًا فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح"(1).
والربانيّة تعني الاتصال الدائم بالله، مع استشعار عظمته وقدراته في كلّ الأحوال والظروف، ومن علامات الانتماء الصادق للدعوة أن يلمح الداعية هذه الربانيّة في صفوة الدعاة ليتمثل بهم ويحذو حذوهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الربانيّة في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (سورة آل عمران من الآية 79) والمفسرون على أنّ الربانيّ هو العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه(2)، والداعية الرباني وليٌّ من أولياء الله إذا تحقق فيه العمل بعلمه، ففي الحديث القدسي "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"(3).
فهذه الدعوة المباركة تسعى لإعادة الربانيّة إلى النفوس، وعلى المنتمي إليها أن يحققها في نفسه بدايةً، إذ أنها أولى خصائصها.
"وأما أنها عالميّة فلأنّها موجهة إلى الناس كافة، لأنّ الناس في حكمها إخوة: أصلهم واحد، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد، لا يتفاضلون إلاّ بالتقوى، وبما يقدم أحدهم المجموع من خيرٍ سابغٍ وفضلٍ شاملٍ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ (سورة النساء الآية 1)، فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسيّة ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بني الإنسان"(4)، فالأكرم عند الله سبحانه وتعالى الأتقى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (سورة الحجرات).
فهذه الدعوة المباركة الربانيّة العالميّة صدى من الدعوة الأولى، دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، يُدَّوي في قلوب هؤلاء المؤمنين ويزداد على ألسنتهم، ويحاولون أن يقذفوا به إيمانًا في قلوب الأمة المسلمة ليظهر عملاً في تصرفاتها ولتجمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل..
المراجع:
1- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين.
2- الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي.
3- رواه الإمام البخاري.
4- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين.
* ماذا يعني انتمائي للدعوة للدكتور محمد عبده (بعض أفكار هذه السلسلة من هذا الكتاب).