حديثُ النَّفس وأشواقُ العمل

الرئيسية » خواطر تربوية » حديثُ النَّفس وأشواقُ العمل
alt

من رحمة الله تعالى وتيسيره على عباده أن ترك محاسبتهم عمَّا يدور في أنفسهم وخلجات قلوبهم وخواطرهم من أعمال وأفعال، فقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (البقرة:284)، عندما نزل على رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم اشتدّ الأمر على الصًّحابة رضوان الله عليهم وخافوا من وعيده، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدَّة إيمانهم وإيقانهم، فأنزل الله سبحانه آية تنسخ هذا الحكم، وهي قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. (البقرة:284).

فالله سبحانه وتعالى مطّلع على ما في أنفسنا، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}. (البقرة:235)، وهو سبحانه يعلم السّر وأخفى؛ حيث قال سبحانه: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}. (طه:7)، ومن ثمَّ فإنَّ الإيمان العميق بأنَّ الله مطّلع عن خفايا وخبايا وأسرار أمورنا، والشعور الدَّائم بمراقبته في السِّر والعلن، يدفعنا ويدعونا على الدَّوام إلى تحصين أنفسنا بالعمل الصًّالح وعدم الوقوع في شراك المعاصي والزّلل، وبين حديث النفس وواقع الحال خيط ٌ رفيعٌ قد يبعث بنا إلى تحويل الهواجس والخواطر الكامنة في القلب - سواء كانت سيّئة أو حسنة - إلى أعمال وأفعال تظهر نتائجها على الجوارح، ولعلَّ من رحمة الله عزّ وجل كذلك أنَّ خواطرنا السيّئة وهواجسنا الخاطئة لسنا محاسبين عليها إلاَّ إذا تُرجمت إلى أفعال؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي صلَّى الله عليه وسلّم فيما يروي عن ربِّه عزَّ وجل قال: قال: ((إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسيئاتِ، ثمَّ بيَّن ذلك، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، ومَنْ همَّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له سيّئة واحدة)). (رواه الشيخان).

إنَّها رحمة الله الواسعة التي شملت عباده، فكيف بنا إذا حوسبنا على ما تحدّثنا به أنفسنا من أعمال لا ترضيه، فنحن لسنا ملائكة، فصور الحياة الدنيا وما تحمله من مغريات وملذات وشهوات قد انطبعت في مخيلتنا وعقلنا الباطن، فإذا خلونا بأنفسنا حدّثتنا وزيّنت لنا الركون إليها والانزواء وراء بهرجها، ولِمَ لا الانغماس في حبائلها الممتدة، فيتحوّل حديث النفس إلى عمل مشين وفعل قبيح.

إذن، فحديث النفس ما هو إلاَّ انطباعٌ وتفسيرٌ لما يحياه الإنسان في صباحه ومسائه، وغدوّه ورواحه، وحلّه وترحاله، لذلك كان حريّ بنا أن نقطع هذه الحبائل الموصولة إلى تحوّل حديثَ النَّفس إلى مرتع خصب  لكلِّ الوساوس والمزالق وما أكثرها في عالمنا اليوم، ولعلَّ السبيل إلى ذلك يرتبط فيما أعلم  - ذكراً لا حصراً -  بثلاثة عناصر مهمَّة :

الأول: الصُّحبة الصَّالحة: لأنَّ الصَّاحب الصَّادق يذكّرك إذا نسيت، ويعينك إذا ذكرت، ويخلص في النّصح ويصدق في الاستشارة، كما أنَّ الجلوس من الصالحين وزيارتهم يعمّق الشعور والإحساس بقيمة المبادئ والمثل العليا.

الثاني: ملء الفراغ بالنَّافع المفيد: لأنَّ الفراغ داءٌ قاتل، يقتل الرُّوح والتفكير، ومثَّل الإمام ابن الجوزي كل نفس يخرج من الإنسان بالخزانة، وطالب أن تكون أنفاسنا كلّها لله، حيث قال: (إنَّ لكل نَفَس خزانة، فاحذر أن تأتي يوم القيامة وخزانتك فارغة).

الثالث: الالتزام بقراءة القرآن وذكر الله عزَّ وجل في كل آنٍ وحين: لأنَّ في تلاوة القرآن وتدبره مفاتيح الفهم والفقه، فبآياته تتفتَّق أنوار مشاريع العمل، ومنها تنبجس  ينابيع الأفكار الواعية والجادة، وبذكر الله تستقيم الألسن إذ تلهج باسم الله الفتَّاح السَّميع العليم، فيكون حديث النفس رقراقاً سلسبيلاً.

فإذا تحقَّقت هذه العناصر الثلاثة أصبحت نفس المؤمن تحدّثه دائماً بطلب المعالي، لأنَّ المرء إذا مات ولم تحدّثه نفسه على ركوب المعالي كان باطن الأرض أولى له من أعلاها، وقد سمَّى الإمام مسلمٌ باباً في صحيحه بعنوان: (باب ذَمِّ مَنْ مات ولم يَغزُ ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو)، ذكر فيه حديثاً عن أبي هريرة قال:  قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ)).

وفي الأمنية العُمرية المعروفة التي كانت تراود الفاروق عمر بن الخطاب حين قال لجمع من  أصحابه في إحدى دور المدينة المنوّرة: تمنوا.. فتمنى كلّ منهم أمنيته.. فكانت أمنية عمر رضي الله عنه.. (أتمنى لو أنَّها مملوءة – أي: الدار - رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولي أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان).
وفي صيحة الرَّاشد في (نحو المعالي).. هَبْ أنك لا تخاف.. ويحك ألا تشتاق!
فإنَّ الشوق إلى رحاب العمل الجاد يدعوك لكي تكون فارسه..  فربّ فكرة سانحة وحديث نفس مشرق كان بداية النجاح لمشروع يحيي القلوب والعقول.

وبعدُ، أحبتي.. لنجعل حديث أنفسنا التي بين جَنباتنا دائماً للعمل الصَّالح والدَّعوة إلى الله  ومعالي الأمور، فمن مات ولم تحدّثه نفسه على النهوض والتغيير، مات ولم يُحْدِث أثراً.. وكان أثراً لا قيمة له في مقياس الرّجال.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …