يقول الله سبحانه وتعالى في سورة تبارك :{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير(1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور(2) الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور(3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير(4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير(5)}
هذه الآيات من سورة تبارك، تتناول أصلا مهماً في اعتقاد المسلم وإيمانه، وهي في الوقت نفسه، تحمل في مضمونها، مظاهر التحدي وإثبات صدق الرسالة، لتؤكد على وحدانية الخالق، ووجوب عبادته وحده، وتذكّر بالمصير المشؤوم الذي ينتظر من يحيد عن نهجه وشرعه، ويتنكب لطريق التوحيد والإيمان. وهي في ذلك تماثل حال أخواتها من السور المكية، اللواتي يرسخن مفهوم العقيدة في النفوس، ويزرعن قيم الإيمان وأركانه في قلوب المؤمنين.
بدأت السورة الكريمة، بقوله: (تبارك) وهي مأخوذة من البركة وأصلها النماء، أو الثبات، بدوام خيره على خلقه. أمَّا قوله (بيده الملك) ففيها دلالة على اختصاص الملك بالله عزوجل، فالملك كما قال بعض المفسرين: السلطان ونفاذ الأمر، وهي تؤكد على كون الله تعالى، ملكاً ومالكاً في الوقت ذاته.
وهذه الحقيقة حينما تستقر في النفوس، فإنها تحدد الوجهة والمصير، وترفع الفرد عن التوجه لغير الله عزوجل، فكل شيء في هذا الكون، هو مخلوق مملوك لله، ولهذا يتوجه الفرد المسلم بالعبادة لله وحده، فهو الخالق المالك المتصرف في خلقه كيف يشاء.
وأمَّا قوله: ( وهو على كل شيء قدير) فهو إضافة إلى أنَّه مالك كل شيء وخالقه، إلاَّ أنَّه لا يحول دون إرادته شيء، فإرادته ليس لها حدود، ولا قيود ولا يوجد من يمنع وقوع قضاء الله، ومن نفاذ أمره، فكل ما يريده الله نافذ، ولن تستطيع أي قوة منع ذلك، أو إعاقته.
ولهذا وجدنا سلف الأمَّة، يبذلون جهدهم في الأخذ بالأسباب، ويوكلون النتائج إلى الله، وهم لم يتعبوا أنفسهم في تحقيق المآل والنتيجة، بقدر تحقيق الأسباب الدنيوية، فكانوا مؤمنين حقاً، يقومون بما عليهم، وعلى ربهم يتوكلون.
أمَّا الآية الثانية .. والتي تتحدث عن الموت والحياة، ففيها إشارة إلى أنَّ الإنسان مخلوق للموت، ومخلوق للحياة؛ فهو ميّت مرتان، وحيٌّ مرتان، ولا يوجد هناك إنسان خارج عن هذا الأمر، أو له استثناء أو حكم مغاير.
أمَّا حكمة تقديم الموت على الحياة، فرأى بعضُ العلماء أنَّ الحكمة من ذلك كون الموت أقدم وأسبق، فقدَّمه الله لأسبقيته على الحياة. وقال الآخرون، بأن الحكمة تتمثل بكون الموت أقوى وأكثر دعوة للتقوى والعمل الصالح، فمن جعل الموت نصب عينيه، كان أتقى وأورع وأحسن عملاً.
لكن الموت والحياة، لم يخلقا عبثاً، وإنما ذكرت الآية الحكمة منهما وهي: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" فالله يمتحن الناس، يمتحن ليتميز من هو أكثر تقوى وطاعة واستجابة. وهذه تجعل المؤمن يقظاً حراً، توقد فيه روح الإيمان، فيكون دائم المراقبة لنفسه، عالماً بالغاية والهدف، فيجعل كل أعماله مسخرة لخدمة هذا الأمر، والوصول إليه.
وهو في الوقت نفسه، حيٌّ يقظ، إذا انحرف عن جادة الصواب، عاد فتاب واستغفر، وندم وأناب، وصحح مسيرته، لينجح في الامتحان والابتلاء.
إنَّ هذه الآية دستور لكلِّ مؤمن يريد أن يحقق معنى العبودية والتقوى، إن هذه الآية دستور لكل مؤمن يريج أن يحقق معنى العبودية والتقوى، فهناك فرق بين من عبد الله تعالى، وفق عادة دون شعور بحقيقة الابتلاء، وبين من جعل الغاية نصب عينيه، فجعل من كل عبادة، وسيلة للنجاح في الامتحان، فيكون ممن نالوا رضا الله ونعيمه وجنته.
ثمَّ تختم الآية بقوله تعالى : " وهو العزيز الغفور" فهو عزيز قوي، لا يغلبه أحد، وهو في الوقت ذاته، غفور متسامح، يغفر لمن أخطأ، ووقع في الزلل، وفي هذه بشرى وطمأنينة للمؤمن، برحمة الله به، وبلطفه وكرمه عليه.
ثمَّ تبدأ الآيات بتناول مشهد آخر، مشهد يراه المرء يومياً، لكن الكثير من البشر، يغفلون عن دقته، وروعته وجماله؛ إنَّه مشهد السماء العجيب.
فالله تعالى أحكم خلق السماوات، فلا ترى فيها اختلافا بيناً، أو خروجاً عن نظام التناسق العجيب، أو عدم تناسب أو اضطراب، وفي لفتة لطيفة، يقول سبحانه: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) فهو وإن ذكر السَّماء كمثال حسي مشهود، إلاَّ أنَّها جزء من منظومة كونية متقنة، تجد في أي من مفرداتها معالم الدقة والتناغم والجمال، وعدم التناقض والاضطراب. وذلك لأنَّ هذا الخلق البديع ليس خاصاً بالسَّماء وحدها، بل هو يتعلق بكلِّ مخلوقات الله عزَّ وجل، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء).
ثمَّ يبدأ التحدي والتأكيد على الحقيقة السَّابقة، فيقول الله للإنسان، ( فارجع البصر هل ترى من فطور) أي: دقق النظر، وانظر نظرة متفحصة، وابحث، مرَّة أو مرتين أو أكثر، هل تجد فيها عيباً أو خللاً دقيقاً أو صغيراً، لم تلاحظه فيما سبق؟
إنَّ الإسلام لا يريد تلك النظرة البليدة، التي قتلتها بلادة الألفة والعادة، بل يريد نظرة حادة متفحصة، تتأمل جمالية الخلق والإبداع الإلهي، بعقل متأمل، فاحص متجرّد، فيكون أدعى للتجاوب وتحقيق الغاية.
إنَّ النفوس حينما غيَّبت عبادة التفكر، تاهت في ظلم كثيرة، وفقدت جزءاً مهماً من إيمانها وقناعتها، إذ إنَّ الإيمان البسيط لا يقاوم حملات الشر والتشكيك الممنهجة والمنظمة، وإنَّما تحتاج إلى قلب سليم، وإيمان عميق قائم على التفكر والتدبر، في الكتاب الإلهي والكون والمحيط الإنساني.
ثم يقرّر الخالق جل شأنه النتجية، بأنَّ البصر ينقلب خاسئا، فيرجع البصر خائباً صاغراً، وهو ذليل متعب، فلا يوجد شيء في هذا الكون البديع، خارج عن الاتساق العام، ولا يمكن للإنسان، أن يجد تفاوتاً أو فطوراً فيها، سواء استخدم عينه البشرية المجردة، أو استخدم المراقب أو التلسكوبات الدقيقة، والتي تؤكد جمال السَّماء، ودقة نظامها، وتناغم أجزائها، من أجرام وأقمار ونجوم وكواكب وغيرها.
ثمَّ تنتقل الآيات، لمشهد جمالي رائع، وهي النجوم المضيئة، التي زيَّنت السماء، فأضفت عليها جمالاً أخاذاً، وجعلت منها منارات للسراة وهداية للتائهين، وعلامات للمهتدين.
فوصفها الله بالمصابيح، والمصباح بالإضافة إلى كونه يشع النور، إلاَّ أنَّه يضفي الجمال والبهاء، ويضيء ما حوله ليهتدي الناس به، وتمتاز النجوم، بأنَّ منها أو من بعض اجزائها ، تخرج الشهب، التي تلاحق الشياطين، في مشهد لا ندرك تفصيلات حقيقته.
إنَّ القرآن الكريم يوجِّه النفس إلى جمال السَّماء وإلى جمال الكون كلّه، لأنَّ إدراك جمال الوجود، هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود، وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه، لأنَّه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة . كمال قال سيد قطب رحمه الله في تفسيره.