كانت مارييت تدور في البيت، ما تستطيع أن تستقر، من جزعها على زوجها وإشفاقها أن يصيبه مكروه، تضم ولدها الرضيع إلى صدرها، تناجيه وتناغيه، ثم يدركها اليأس، ويُخيل إليها أنه قد غدا يتيماً لا أب له، فَتَسّاقط الدموع من عينيها على وجه الطفل فيفيق مذعوراً ويبكي، فتمتزج دمعة الحب، بدمعة الطفولة...
وكان زوجها قد خرج من الغداة لرد الأعداء المسلمين عن بيت المقدس، ومالت الشمس ولم يعد، ولم تعرف ماذا حل به...
وكانت مارييت فتاة باسلة، ثابتة الجنان، لم تكن تعرف الخوف ولا تخلع الحوادث فؤادها، ولكن وقعة (حطين) لم تدع لشجاع من الإفرنج قلباً، ولم تترك للفارس فيهم مأملاً في نصر، فقد طحنت جيوشهم طحناً، وعركتها عرك الرحى، وزعزعت قلوب الكماة عن مواضعها. فكيف بقلوب الغيد الحسان؟
وكان زوج مارييت فارس الحلبة، وبطل القوم، وكان قد رأى البنات من الإفرنج والألمان والإنكليز وكل أمة في أوربة، يملأن جوانب القدس، فلم يرَ فيهن من هي أفتن وأبهى جمالاً، من مارييت، فهام بها وهامت به، وتزوجها فكانا خير زوجين، وكانت حياتهما النعيم كله، ودارهما كأنها لهما جنة عدن... ولكن حبه لها لم يشغله عن حبه وطنه، وتمسكه بصليبيته، وحرصه على أن يبقى أبداً فارس النصرانية المعلم، وبطلها، فكان كلما سمع نأمة [وهي الصوت الضعيف الخفي] طار إليها، وكلما دعا داعي القتال كان أول الملبين...
وفُتح الباب، فخفق قلب مارييت وتلاحقت أنفاسها، ولم تدرِ أهوَ البشير أم هو الناعي، وتلفتت فإذا هي بزوجها يدخل عليها سالماً، يمد لها ذراعيه فتلقي بنفسها بينهما... ويحدثها حديث النصر: لقد رد (يسوع) الأعداء، وفتّ في أعضادهم فانطلقوا هاربين، قبل أن نباشر حرباً، أو نشرع في قتال، لقد استقر أيتها الحبيبة ملك المسيح في بيت المقدس إلى الأبد، ولو أبصرتهم يا مارييت، وقد ذهب الفزع بألبابهم لما رأوا أسوار المدينة، تطل من فوقها أبطال النصرانية، وفرسان الصليب، فهدوا خيامهم وولوا الأدبار لا يلوون على شيء لا يريدون إلا النجاة... لما صدقت أن هؤلاء هم الذين فعلوا تلك الفعلة في (حطين). لقد فروا كالنعاج الشاردة... فيا ليت أبطال المقدس كانوا في (حطين)، ليروهم يومئذ ما القتال! ألا تقدس الصليب، وتبارك اسم الناصري، إن أورشليم لنا إلى الأبد!!
ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى، لتحضر الاحتفال بالنصر، وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم، وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم، ويشربون دمائهم، ويصور لها ملكهم صلاح الدين كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة، فترتجف أضلاعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها، وتصلّب، وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع والعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها... وأن لا يروها وجهه المخيف!!
وينقضي الاحتفال ويرجعون من الكنيسة، وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكمهم فيه، ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها، وهي تداعب الآمال وتناجيها، حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوّها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد؛ أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة وأخذتها معها في أحلامها... ونامت... ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتميد، وكأن حصونها تدك دكاً، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر، وخالطت سمعها أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال؛ فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة، فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فلم تلقه في مكانه... فخرجت تسأل ما الخبر، فخبروها أنه صلاح الدين، قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً، وكادت تقتلعها من أساسها، كما تقتلع الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة، وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كأبالسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا، ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم...
وكانت مارييت واثقة من قوة الدفاع، فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مائة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم (بليان) ويصرفهم البطريك الأكبر، ولكن هذه المفاجأة روعتها، وأدخلت الشك إلى قلبها...
وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى وكل خبر شر عليها من الذي قبله، وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه، وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض، قد رفعت على الأسوار، وأنها قد عقدت الهدنة، على أن يخرج من شاء من المدينة على مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقي في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.
وتركت مارييت القوم في رجّتهم، وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة، والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشُدّ يدها على ولدها وتمضي متباعدة، حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة محرقة، مختلطة بجثث الأجناد، متقطعة الأوصال، فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً، وهمت بالعودة ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها، ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره، وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث، عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم أمل (الوطن القومي) الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر، وألقيت جثته... ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه... وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها؛ وتضاعفت به مصيبتها وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى، من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام، ومما أصابهم من التبديل والتغيير..
وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت، وجاءت مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء، لا تعرف عنها شيئاً، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد، وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد انتزع من صدرها، وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقله؟ وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل، وانتثرت ثناياه الرطاب، و... ولم تستطع المضي في هذه الصورة، فأغمضت عينيها، وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة، وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أوجعت الطفل فصرخ وبكى... ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن تتصور كيف يتبدل كل شيء بهذه السرعة، وتتوهم حيناً أنها في حلم، وأنها ستتيقظ فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم، وتبدده أمام عينيها...
وكان أشد ما روعها، وحز في فؤادها، انصراف الناس عنها، وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، فكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: أنا... وكرّت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد، والحب والوصال. ثم انتهت بالخيبة المرة، والهزيمة الماحقة، والفراق الطويل، ولم تفهم كيف يكمن أن يهوي في لحظة الصرح الذي أقيم في مائة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً، أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟
وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب، لم يكن جوابه غير "لا أدري..!"
وظهر القمر نحيلاً هزيلاً من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياءً شاحباً حزيناً جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل، تبرز من خلالها الدروع المذهبة، وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة، التي كانت في الصباح أبطالاً كراماً تخطر على أرض الموعد، وكانت حصن الصليبية وسياجها، وعادت إلى البحث عن زوجها والتحديق في الوجوه، فمر بها شيخ كان يحدب عليها، ويحب زوجها، فأدركته الشفقة عليها، فأخذ بيدها فاستخرجها من الساحة، وكان الخطب قد حطم إرادتها وتركها كالتي تمشي في نومها، فانقادت إليه طيعة وسارت معه، وسألته هامسة كأنها تخاطب نفسها.
يا أبتاه هل رأيت زوجي؟
فلم يحب أن ينبئها بما تكره فلوّى الحديث وشغلها بغير ما تسأل عنه، فقالت:
وما تظن أنهم يصنعون بنا يا أبتها؟ هل يخطفون ولدي ليأكلوا لحمه أمام عيني؟
قال: ومن خبرك بهذه الأكاذيب، إن المسلمين قوم كرام، أهل وفاء ونبل، وإن ملكهم صلاح الدين خير الملوك قاطبة...
ومضى يحدثها عما عرفه من صفة المسلمين، وهي فاتحة فمها دهشة لا تكاد تفهم ما يقول ولا تصدقه...
فعاد يقول: ولو أنهم ذبحونا لما كانوا معتدين، بل كانوا منتصفين منا، فإنا لما دخلنا القدس منذ مائة سنة، قتلناهم في البيوت والشوارع والمساجد، وحيثما وجدناهم حتى صاروا يلقون بأنفسهم من فوق الأسوار لينجوا منا، وحتى بلغ عدد من قتلنا منهم سبعين ألفاً ولم يتحرك قلب منا بشفقة، ولا لسان بإنكار...
وأصبح الصباح وهي لا تزال تفتش وتبحث، والولد على يدها ينادي: بابا، فيذكرها به، وما كانت ناسية...
وإن كلمة (بابا) لأجمل كلمة في الدنيا، وفاتحة اللغات وأمها، فهي أول لفظ بشري يجري به لسان الوليد، وهي كلمة الإنسانية، تختلف اللغات، وتتحد فيها. وهي كلمة الطهر ينطق بها الطفل قبل أن يعرف الشر ويدري ما المكر، وهي أحلى من كلمة (حبيبي) لأن من الحب ما يمدح وما يذم، أما الأبوة فخير كلها، والحب رابطة يصنعها الإنسان، أما الأبوة فمن صنع يد الله.
ولكن مارييت لم تكن ترى في هذا الصباح إلا ناراً تحرق كبدها، وشفرة تمزقها، وضاق بها أمرها، فهرعت إلى جارات لها واجتمعن يترقبن ما يكون من الأهوال، فإذا القدس ترتج بصرخة واحدة، اجتمعت عليها حلوق المسلمين والنصارى أولئك ينادون: الله أكبر، وهؤلاء يعولون ويبكون، فنظرن فإذا أحد الجنود الفاتحين علا قبة الصخرة، فأنزل الصليب الذهبي، الذي لبث فوقها قرابة مائة سنة، وحسبوه سيلبث إلى يوم القيامة...
وجاءتهن الأخبار بما يصنع المسلمون في المدينة، فجعلوا يعجبون، ولا يصدقون، أن المسلمين لم يؤذوا أحداً، ولم ينهبوا مالاً، وأن من شاء الخروج دفع ما اتفق عليه وحمل معه ما شاء وخرج، وأن النصارى يبيعون ما فضل عنهم من أمتعتهم في الأسواق فيشتريها منهم المسلمون بأثمانها. وأنهم يروحون ويجيئون آمنين مطمئنين، لم يروا إلا الخير والمروءة واللطف. وأن المسلمين قوم أهل حضارة وتمدن ليسوا وحوشاً ولا آكلي لحوم البشر. وروي لهن ما صنعوا في الحرم، فقد نزعوا منه كل ما أحدث النصارى، وردوه إلى حاله الأولى، وجاؤوا بالمنبر الذي صنعه نور الدين الشهيد ليقام فيه، فأقاموه في الحرم، وخطب عليه خطيبهم يوم الإسراء...
وجاءهن شاهد عيان يصف لهن ما رأى وما سمع في المسجد، قال: ودخلت فلم يمنعني أحد، ولم يسألني من أنا، فاختلطت بالمسلمين، فإذا هم جميعا يجلسون على الأرض لا تتفاوت مقاعدهم، ولا يمتاز أميرهم عن واحد منهم، قد خشعت جوارحهم، وسكنت حركاتهم، وخضعوا لله، فعجبت من هؤلاء الذي كانوا جنّ المعارك، وشياطين يوم القتال، كيف استحالوا هناك رهباناً خشعاً، ورأيت الخطيب قد صعد المنبر فخطب خطبة، لو أنها ألقيت على رمال البيد، لتحركت وانقلبت فرساناً، ومضت حتى تفتح الأرض، ولو سمعتها الصخور الصم، لانبثقت فيها الحياة، ومشت فيها الروح، وجدت هؤلاء الناس لا يغلبون أبداً ما داموا مسلمين ولو اجتمعت عليهم دول الدنيا، لأن قوة الإيمان أقوى في نفوسهم من كل قوة، إنه لا يخيفهم شيء لأن الناس إنما يخيفون بالموت ومنه يخافون، وهؤلاء قوم يحبون الموت ويريدون أن يموتوا. كلا، لا يطمع قومنا بهذه الديار أبداً، أنا أقول لكم، وأنا قد عرفت القوم وتكلمت بلسانهم وخالطتهم ووقفت على ديانتهم وسلائقهم. كلا، إنه لا أمل لنا فيها، لقد أنزلوا الصليب اليوم، بعدما لبث مائة سنة فلن يعود، لن يعلو هذه القبة إلا شعار محمد، فلا نصرانية، ولا يهودية، إن كل بقعة في هذه الديار تنقلب إذا حزب الأمر وجد الجد (حطين) وكل وليد فيهم يصير صلاح الدين، فلا يهرق قومنا دماءهم هدراً، ولا يزهقوا أرواحهم في غير طائل.
ونظرت مارييت فإذا قومها قد آثر فريق منهم البقاء في ظل الراية الإسلامية حينما رأوا في ظلالها العدل والأمن والهدى، مع الحضارة والتمدن والغنى، وأبى فريق إلا الرحيل، فاختارت أن تكون مع هذا الفريق لا كرهاً بالمسلمين، فقد بددت شمس الحقيقة ظلام الأوهام؛ وكذّب الواقع ما سمعت عنهم من الأحاديث، ولكنها لم تستطع أن تقيم وحيدة في البلدة التي يذكرها كل شيء فيها، بزوجها، وبحبها، وبسعادتها التي فقدتها...
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها، المقدسة عندها ...
نكمل أحداث هذه القصة في الجزء الثاني .. لنعرف مصيرها مارييت ومصير زوجها وابنها ...