أشرنا في الحلقة الماضية إلى ما كشفته دراسة نادرة للأستاذ عمر التلمساني المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين عن وجود رؤية مؤصلة وقديمة للحركة الإسلامية حول مفهوم الدولة الدينية , وأشرنا إلى ما ذكرته الدراسة التي حصل " بصائر " على نسخة منها إلى أن الإسلام لا يعرف في تعاليمه رَجلَ دِين
ونستعرض في هذه الحلقة مفهوم الشورى وفق ما جاء في الدراسة التي أكدت أن الإسلام لم ينكر فكرة الشورى، ولكنه أمر بها، وترك لكل عصرٍ أن يضع الشكل الذي تتم به الشورى؛ طبقًا للتطورات والأحداث التي تستجد جيلاً بعد جيل.
وأشارت الدراسة إلى أن الحكم الذي يطبق شرع الله كفل الحرية التطبيقية للشعوب، ومنع الحاكم من التجسس على أفراد الرعية، وفي ذلك يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الحاكم إذا ابتغى الريبة في الرعية أفسدهم"، وقد عجز عمر بن الخطاب عن إقامة حدِّ الخمر عندما وصل إلى ذلك عن طريق التجسس، ودخول المنازل دون إذنٍ من أصحابها.
و أن علماء الإسلام الصالحين كانوا يواجهون حكام المسلمين بأخطائهم وظلمهم، واثقين بأنه ليس لهم في الدنيا ما يخافون الحاكمَ من أجله، وليس عند الحاكم في الآخرة ما يرجونه له، إنهم كانوا يُحذِّرون الحاكم من بطانة السوء، الذين لا ينصحونه حرصًا على الدنيا.
وتؤكد الدراسة أنه إذا ثبُت أن الحاكم المسلم مقيدٌ بشرع الله الذي لا يظلم ولا يحابي ولا يجور.. ثبت على وجه القطع واليقين أن الحكومة الإسلامية، التي اخترعوا لها اسم الحكومة الدينية، هي خير الحكومات على وجه الأرض.
ويقول التلمساني لعل أكبر الأسباب التي دعت هؤلاء الناس، إلى ابتداع شعار الحكومة الدينية، هو فزعهم من ظهور المدِّ الإسلامي، ويوم أن أهاب الإمام الشهيد حسن البنا بالمسلمين أن أمتكم خير أمةٍ أخرجت للناس، تهدي وتصلح وترشد وتُقِّوم وتقوي، كي يستعيدوا مكانهم على الأرض عزةً ومنعةً وتقدمًا ورقيًّا وحضارة، منذ ذلك الحين وصرخات محمومة، بأقلام مريبة على صفحات من الجرائد التي تشكك في كل ما هو إسلامي، محذرًة الناس من قيام ما يسمونه خداعًا بالحكومة الدينية، قياسًا على الحكومة البابوية.
ذرائع مرفوضة ..
ويقول التلمساني إن الإسلام بيَّن حقوق الحاكم والمحكوم، كما بيَّن واجباتهما على السواء؟؟ لا شيء على الإطلاق إلا ما يتبجح به هؤلاء الكتاب من انحرافٍ لبعض حكام البلاد الإسلامية، الذين يدَّعون أن حكومتهم إسلامية.
ويقول إن العيب ليس عيب الإسلام، ولكنه عيب الحكام الذين يدَّعون تطبيقه، وهم أبعد ما يكونون عن هذا التطبيق التزامًا وسلوكًا وتنفيذًا
الحكومة الإسلامية ..
وعرض التلمساني لملامح الحكومة الإسلامية , وقال هي التي تُطبِّق شرع الله كاملاً غير منقوص، مقدرةً أن التحريم والتحليل ليس إليها، ولكنه لله، وأنها لا تملك إدخال أحد الجنة أو قذفه في النار، وأن مسئولية الحاكم أمام الله أضعاف مسئولية أي فردٍ من رعيته، فهو إذا جار أو ظلم كان أتعسهم حظًّا يوم القيامة، وهو إن استقامَ وعدلَ كان أوفرهم أجرًا يوم الحساب.
وأضاف ليس من حقِّ الحكومة الإسلامية أن تعتقل أو تحبس أو تُعذِّب أو تقتل أو تؤمم أو تصادر أو تستولي على مال أحد، إلا في حدود ما أباح لها الله ذلك، وأنها تصرف سياستها في حدود ما أنزل الله، في حكمةٍ ودقةٍ تتناسب مع ظروف العصر وملابساته، كل ذلك داخل حدود الحل والحرمة
وقد ثبت هذا عملاً.. فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي جاء بعقيدة التوحيد، صلى إلى الكعبة وعلى سطحها ما يزيد على الثلاثمائة صنم؛ لأن الوضع كان يقتضي ذلك، وجاء أبو بكر فحارب مانعي الزكاة خشيةَ أن يهتز أساس تشريع الزكاة في نفوس المسلمين، وفي ذلك من الإضرار بالمجتمع الإسلامي ما فيه، وتبعهما عمر بن الخطاب، فأوقف حد القطع في أعوام الرمادة، كما استخدم بعض الذميين في بعض شئون الدولة، وجعل في دواوينه الكثير من الروم؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد تمرَّسوا بمثل تلك الأعمال حينذاك.
الحكومة الإسلامية والحقوق ..
ولقد انتبه العالم المتحضر أخيرًا إلى أهمية النقابات في الدفاع عن حقوق أفرادها، ورأوا ذلك قمة في العدل والإصلاح، فقد سبقتهم الحكومات الإسلامية في هذا المضمار بمئات السنين؛ إذ كان لكل أبناء حرفة في الدولة الإسلامية نقيب، يرعى مصالح أبناء حرفته، فهذا حي النحاسين، وهذا حي المغربلين، وهذا حي الفحامين، وغيره وغيره وغيره، ترى أي نقص يعتري دولة تحكم بشرع الله، بعد أن كانت أستاذة لدول العالم المتحضر في كل شيء. حتى الطرقات كان لها نظام، والحوانيت والدكاكين كذلك
وتساءل ماذا تنكرون على حكومة إسلامية يقول نبيها، صلى الله عليه وسلم،: "والذي نفس محمد بيده لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربنَّ الله بقلوبِ بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم"، ويقول: "ما من قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر ممن يعمله، لم يغيروه إلا عمَّهم الله بعذاب".
ويضيف إن الإسلام يهتم بالأمة في مجموع تشكيلها، ويرضى بالحكم الذي يطبق شرع الله وما دام مستقيمًا ولو في الظاهر على الأقل لا يجاهر بمعصية. ومعنى هذا أن الفوارق الطبقية لا وزن لها أمام تقوى الله. فقد كان أبو بكر تاجر حبوب، وعمر تاجر أقمشة، ومع ذلك فقد حكموا الأغنياء وسادة قريش وغيرهم من العرب والروم والعجم عن طريق الاختيار. وبلغ من دقة الإسلام في التنظيم ووحدة الكلمة وجمع الشمل أن أوصى الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالتأمير في حيز الثلاثة؛ حيث يقول ما معناه: إن كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدًا منكم. وليس بعد هذا من نظرة أسمى وأدق من هذه النظرة، في حفظ الاستقرار ورعاية المصلحة.
ويقول التلمساني أن الحكومة الإسلامية، التي تعرف واجبها، وتقدر مهمتها، تأخذ الإسلام على أنه عمل جاد، ودأب متواصل، لتقويم حضارة فاضلة عزيزة منيعة، مليئة بالروحانيات والأخلاق، وليسود في العالم سلام ضلَّت طريقه كل الدول التي تتغنون بأمجادها وتاريخها، وكأنما الإسلام لا أمجادَ له ولا تاريخ!!
ويقول إن الحكومة الإسلامية إذا حاربت لم تُحارب إلا دفاعًا عن حقها في تبليغ كلمة الله إلى الناس أجمعين، وفي حربها لا تتجاوز المعنويات الإنسانية الحقة، فهي تدفع الأعداء بمثل ما اعتدوا به بلا إمعان في الانتقام، لا تنتهك حرمة، ولا تعتدي على عرض ولا تتبع الفارين، ولا تُجهز على المجروحين، ولا تعذب المأسورين، مَن الذي لا يرضى عن قيام حكومة إسلامية على هذا الغرار، إلا عديم الإحساس، سقيم الوجدان؟!.