مع الجزء الثاني من القصة..
ومشت القافلة وتلفتت مارييت إلى الوراء، تودع هذه البلدة الحبيبة إلى قلبها، المقدسة عندها، بلدتها التي ولدت فيها، ولم تعرف لها بلداً غيرها، ونظرت إلى موضع الصليب الذهبي الذي كان يشرق كالشمس على قلبا فرأته خالياً منه، فأحست أنها تركت قلبها في هذا البلد الذي كان لقومها، فصار لعدوها، والي خلفت فيه زوجها، لا تدري في بطن أي طير أو في معدة أي وحش صار قبره... وخلفت فيه ذكريات صباها، وبقايا سعادتها وحبها، ولكنها فرحت بالخروج منه، حتى لا ترى ما يذكّرها كل يوم بما فقدت، ولتلحق بديار قومها، وأهل ملتها...
سارت وهي سابحة في أفكارها، فتخيلت زوجها وهو يمشي معها في الموكب الظافر تحت راية الصليب، فبكت واختلط نشيجها بنشيج النسوة من حولها، وهن يبكين من خلفن من الأسرى والقتلى، وإذا بالجنود يقفونهنّ، فسكتن من الفزع ووقفن وأيقن بالهلاك، فأرجعوهن فإذا على رابية طائفة من المسلمين بينهم شيخ على فرس له، لم يرع مارييت وصحبها إلا قولهم: هذا هو السلطان.
هذا هو السلطان، هذا هو صلاح الدين المخيف، آكل لحوم البشر، شارب الدماء. وجعلت تختلس النظر إليه فلا ترى ملامح الوحش الكاسر، ولا تبصر الأنياب ولا المخالب، ولا ترى إلا الهيبة والنور والجلال، فلما وقفن عليه، قال: ما تردن؟
قالت امرأة: رجالنا في الأسر، أزواجنا...
وتصايحن وبكين، فبكى السلطان رقة لهن، وأمر بإطلاق أسراهن، وأعطاهن الدواب والطعام والمال...
لما رأت مارييت زوجها صحيحاً معافى، نسيت الشقاء والهزيمة، وألقت بنفسها بين ذراعيه، لم تخف أن يبصرها الناس، فقد جعل كرم السلطان كل واحد يشتغل بسعادته، ثم مشت الطريق بهؤلاء النازحين لم يمشوا هم فيها، لأنهم ملؤوها فلم يعد يعرف أول لهم من آخر، فكأن الطريق كالنهر الممتلئ بالماء من نبعه إلى مصبه، نهر من الأسى والفرح، والهزيمة في المعركة، والظفر بلقاء الأحبة، وكره الغالبين وشكرهم على إحسانهم، وأحست مارييت في قلبها بالاعتراف بفضل هذا الرجل المحسن، ورأت خلال الإنسانية والحق والنبل تتمثل فيه هو، لا فيمن رأت من رجال قومها. وكادت تحبه ثم تنبه في نفسها دينها، وما علموها من بغض الإسلام، فتوقفت، وحاولت أن تذكر سيئة واحدة لهذا الرجل ولقومه، تستعيد بها بغضاءها إياهم فلم تجد، وجعلت تقابل بينه وبين البطريق الأعظم، الذي خرج مع القافلة بعدما استلب المعابد وكنوزها، وكنس الكنائس، وحمل كل ما كان فيها، ولم يعط من هذا المال أحداً، لم يجد به على امرأة ضعيفة تمشي معه، ولا على شيخ عاجز، وذكرت ما سمعت من أن السلطان تركه يخرج بهذا المال، مع أنه شرط لهم الخروج بأموالهم لا بأموال الكنائس، وذكرت ما كان يصنع قومها من إخلاف الوعود، والحنث بالعهود، فتمنت لو أنها كانت مسلمة، ولكنها لم تجهز بهذه الأمنية وخنقتها في نفسها.
وتدفق هذا النهر البشري يحمل أعجب أنواع السلائق الإنسانية، وأغرب المتناقضات، ففيه حنو الأمهات وإيثارهن، وفيه أثرة الأغنياء وقسوتهم، وفيه الصبر وفيه الجزع، وفيه الصدق وفيه التزوير، وفيه البطريك الذي يزعم أنه خليفة المسيح ليساعد الفقراء، ويزهد في الدنيا، ثم يأكل مال الله وحده، ويعرض عن الفقراء والمحتاجين.
مشت هذه القافلة في الطريق المقفرة، والمسالك الموحشة، لم تكن تحب أن تعرج على شيء من بلاد الإسلام، كانت وجهتها طرابلس، فلما بلغتها بعد الجهد البالغ، والمشقة المهلكة وبعد أن تركت في الطريق ضحايا الجوع والتعب، ماتوا وفي القافلة الأغنياء معهم الذهب، وفيها البطريك يحمل من أموال الله مائة ألف دينار...
... لما بلغتها، أغلق أميرها السور في وجه القافلة وردها، ثم بعث رجاله فاستلبوها ما كان معها (كل ذلك حقائق تاريخية، رواها مؤرخو أوروبا)، فانبرى لهم الشجعان والأبطال ليردوهم، فأوقعوا بهم وقتلوهم، وكان فيمن قتل زوج مارييت.
وتاه من بقي في البرية، كما يتيه الزورق في لجة البحر، وعاد أكثر أهلها إلى دنيا الأمن والمروءة والنبل دنيا المسلمين، وكانت مارييت مع التائهين، تمشي معهم قد مات حسها وتبلد شعورها، ولم تعد تستطيع أن تفكر في شيء، تنزل بنزولهم وترجل برحيلهم، وتأكل إن أطعموها، وتصمت إن تركوها، وكأنما قد خولطت في عقلها، أو أصابها مس من الجنون؛ حتى بلغوا أسوار أنطاكية، فطردهم أهلها وردوهم (كما روى التاريخ)...
... فرجعوا إلى بلاد الإسلام وقد أيقنوا أنه لن يكون في الأرض أنبل ولا أفضل من هذا الشعب الذي علمه محمد صلى الله عليه وسلم كيف تكون الإنسانية...
أما مارييت فبقيت مكانها ذاهلة كأنها لا تبصر ولا تعي، فأقبل عليها شاب من أهل أنطاكية من قومها، فأخذ بيدها وواساها، فانقادت له، وسارت معه حتى احتواها منزله على سيف البحر، فسقطت من التعب والإعياء نائمة...
وأيقظها لغط حولها؛ فاستفاقت فسمعت صوت رجل يقول لصاحبه:
ما ندعك تنفرد بها إنها أجمل امرأة وقعنا عليها.
فيقول الأول: ولكنها صيدي أنا... أنا الذي اصطادها.
فتفهم أن الخلاف عليها، على شرفها وعفافها، ويعود إليها ذهنها، فتذكر الماضي كلها، وتدرك أنها فقدت زوجها وحاميها ويشد الغضب من عزمها. فتقول لهم:
ويحكم، أهذه هي مروءتكم وإنسانيتكم، أهذا هو دينكم يا أهل أوربة؟...
فيضحكان ويقهقهان، فيشتد بهذا الغضب، وتصرخ بهما:
بأي لسان أخاطبكم؟ بلسان الدين وأنا أراكم ملحدين كافرين؟ بلسان الإنسانية وما أنتم إلا وحوش في جلد بني آدم؟
بلسان المروءة وقد فقدتموها ونسيتم حدودها؟
ويلكم لا تستحيون أن يكون هؤلاء المسلمون أشفق على نسائكم، وأحفظ لشرفكم منكم، وأن يكونوا أنبل وأفضل لوصايا السيد المسيح؟
لا والله لستم للمسيح ولا لمحمد أنتم للشيطان... أولئك هم الذين جمعوا المسيح ومحمداً، أولئك أهل الفضائل أرباب الأمجاد، خلاصة الإنسانية.
إنكم لن تغلبوهم. لن تأخذوا أرضكم المقدسة من أيديهم أبداً. كلا، إنهم أحق بها، لأنهم أوفى منكم لمبادئ المسيح..
إنهم أعرق منكم في الإنسانية، إن المستقبل لهم، إن لهم المجد والظفر، ولكم أنتم اللعنة، لكم الخيبة والخزي.
فلا تجد منهما إلا إيغالاً في الضحك، وتتلفت حولها فلا تجد ناصراً، وأين المعين على الحق، المدافع عن الشرف في بلد ليس فيه مسلم.
وتراهما قد أقبلا عليها بعيون محمرّة، فيجن جنونها، فتلقي بولدها في اليم وترمي بنفسها.
وكان البحر ساكناً فصعدت من الماء فقاعتان، فيهما اللعنة الحمراء التي خرجت من فؤادها المخترق، على هؤلاء (الواغلين في فلسطين)..!
وعاد البحر ساكناً كما كان...
وأسدل الستار على القصة التي تتكرر دائماً منا ومن هؤلاء الغربيين: قصة نبل لا يدانيه في عظمته البحر، ونذالة لا يغسل البحر أوضارها، ولا يطهر الأرض من عارها.