إنّك حين تتحدثُ عن الإسلام، فإنّما تروي قصةَ بيئةٍ تزخرُ بحريّةِ الرَّأي وانطلاقةِ الفكر. وهو سرّ البقاءِ حين تتوارى الشّرائع والنُظُمُ كافّةً، وتُطرقُ أمام سدٍّ من الخطوطِ الحُمْرِ التي لا يحصرها مشهد ولا يتخطّاها بشر!!
و(حرّيةُ الرأي) عنوانٌ طالما ارتبطَ وجودهُ بخَلْقِ الإنسان وإيجادهِ، في إشارةٍ موحِيةٍ –ربّما- على علائقَ تروي قصةً ذات معنى بين حياة الإنسانِ من جهة، وحريّة الرَّأي من جهةٍ أُخرى. ألم تقرأ الرِّواية الربّانيةَ للحدث؛ حين تُطلعك آيُ الكتابِ على قصّةِ الملائكةِ مع الخَلْقِ أولَ الأمرِ، ثمَّ لا تلبثُ أن تأخذكَ إلى خاتمتها وهي تتحدَّثُ عن حالِ الشَّيطان معه!!
إنّها القاعدةُ الأولى التي أرستها الإرادةُ الإلهية العظيمةُ من قبلِ أن تدبُّ الرُّوح في جسدِ الطينِ ذاك !! وهيَ أنّ حريّةَ الرَّأي مصونةٌ للجميع؛ إلاّ أنّ الحقّ هو الذي يؤوبُ إليه أصحابُ القلوبِ الحيّة العامرةِ بالإيمان، من بعد.
إنّ قصّةَ الشيطانِ تلك، في جدالِه وطرحهِ لرأيه بين يدي الله لأجلى صورة لمدى الرَّحمةِ الربّانيةِ العظيمة. وإنْ أنتَ قلّبتَ صفحاتِ الكتاب لوجدتَ هذه القصةَ بتفاصيلها ذُكرتْ في خمسة مواضعَ منه، ثمَّ جاءت من بعدها قصصٌ أُخرُ تدور في فلكِ حريّةِ الرَّأي، لتُنَبّهَ آياتها كلّ غافلٍ إلى هذه القاعدة المصونة من ربّ العزّةِ حتى قيامِ السَّاعة، بل يحُسُنُ أن نقول: إنَّها مصونةٌ حتى في تفاصيل القيامة والحسابِ نفسه.
سيرةٌ .. للحريّة
إنّه ليُحمدُ للدعاةِ أنْ يقرؤوا سيرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليشهدوا بأيّ خصائص بُنِيت الشَّخصية الإسلامية الأولى، فإلى كلّ من حَمَل شعارَ أنّه: ( لن يصلح آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولها ) ، فهلاّ وعيتَ أيّ جرعاتٍ فكريةٍ أُعطيتْ للأوائلِ أولئك، حتى بهم صلحت الأمة!!
إنّ صناعةَ الولاء للدَّعوات يكونُ بحرفةِ حريّةِ الرأي، وإمكانية التعبير، ه المشاركة في صياغة القرارات. انظر إلى النَفَس النبوي في هذه الحرفةِ في بدرٍ مرّة وفي أحدٍ في أخرى.
ذاكـ الحُباب بن المنذر رضي الله عنه يرى إبّانَ غزوة بدرٍ أنّ موقع عسكر المسلمين يحسُنُ تغييره، فإذا به يضعُ هذا الرأي في قناته السليمةِ أولاً بأدب الجندي، ثمَّ لا يلبث الثناء (الصّادق) من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم على حرصِه وولائه المحمود (لقد أشرتَ بالرَّأي) بعدَ أنْ أخذَ به.
ثمَّ لا يلبث العام يطوي صفحتهُ حتَّى يُطالعك شبابُ القومِ يوم أُحدٍ باندفاعهم أمام رسولِ الرَّحمة عليه الصًّلاة والسَّلام لغيابهم عن بدر مطالبين بالخروج لقريشٍ خارج المدينة لا انتظارهم كما كان يرى عليه الصَّلاة والسَّلام، فيستمع لرأيهم، بل ويستجيبُ له. ثمَّ يأتيكَ نبأ الهزيمة من بعدُ، لكنّ القائدَ القدوةَ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَعبْ على أولئكَ رأيهم، لتكتمل منظومةُ حريّة الرأي واحترامه، التي رسمها وعلّمها أصحابَه من بعده.
غابت الحريّة ..
إنّ ذلك البناءَ المتين فيما سبق كان قائماً على الحريّة كواحدٍ من الأركان، وبه بلغ مُلكُ الأمَّة ما بلغ. ألم يقف عمرُ رضي الله عنه مرّاتٍ ليجد من يقف ويعطي رأيه في كلامه، فيحاججهُ ثمَّ يُعلن أمير المؤمنين أنْ (كلّ الناسِ أفقهُ منك يا عمر)، وحاشاه رضي الله عنه.
ثمَّ أتى زمانٌ سُلبَ من النَّاس حرّيّتهم، نُهبت حتَّى أفكارهم وأحلامهم، باتوا قوالبَ مكرورة، حينها دالتْ دولةُ الحقّ، وبدأ الناسُ بانتظار مجدّدٍ يأتي، أو مخلّص يبين!!
واليوم يتعلّم أبناء الدَّعوات الحرّية، في أفكارهم وآرائهم، ولم تزل أظفارهم بعدُ غضّةٍ في انتظامهم، بغضّ النظر عن صدقيّة التطبيق وصحّته. وهم اليوم مدعوون إلى مصارحةٍ مع الذَّات، يبدأوا على إثْرها بمراجعةٍ لكلِّ موروثٍ دعويّ، في نقدٍ صريحٍ هادفٍ، لتصحيح المسار، ومسابقةِ الزَّمن.
نحو تربيةٍ حرّة
لقد أجادَ أبو الحسن الندوي –رحمه الله- حينَ وضعَ هذه القاعدةَ التربوية (نحو تربيةٍ حُرّة) في بناءِ الشَّخصية الدَّعوية المُعاصرة، في محاكاةٍ موفّقةٍ لما كان عليه السَّلفُ رضيَ الله عنهم. انظر إلى المدرسةِ الفقهيةِ، فقد تلاقى كلّ واحدٍ من الأئمَّةِ الأربعةِ بغيره، وكان الأسبق مِلْء السمع والبصر في زمنه، إلاّ أنّ ذلك لم يثنِ صاحبَهُ أن يجتهدَ، ويُبدع، في تربيةٍ حرّةٍ للذَّات وللغير على السَّواء.
ولعلّ الفِكْرَ لن يحيدَ لحظةً في ذلك الحثّ النبوي من قبلُ على الاجتهاد، وإبداء الرَّأي، لا بل على الأجر الذي يترتب على هذا البذل، (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمَّ أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثمَّ أخطأ فله أجر)[صحيح البخاري].
ثمَّ تأتي إشارةٌ جليلة نبوية أخرى لترسم للعاملين الطريق الصَّواب أن .. (لا تكونوا إمَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا)[سنن الترمذي]، فهي الحريّةُ حتى في الهَمِّ والتفكير والرغبة، لكلّ سائرٍ على الطريق!!
وحتى نُبادر بتربية الناسِ على الحريّة لا بدّ أن نبدأ من ذواتنا، بالبُعدُ عن تربية القطيع –عافانا الله منها-، فالدَّعواتُ الربّانية بُنيت على الحريّة، وعليها داومت، ودامت. وما الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ وجهٌ أسنى لما عُرف داخل الصفّ اليوم بالنقد البنّاء.
(والسكوت عن الأخطاء، أو الغض عن الهفوات، لمصلحة راجحة لا يمنع من ممارسة النقد، والذي هو من مظاهر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بل إنَّ عملية النقد بذاتها هي الطريقة المثلى لتصحيح الأوضاع إذا كانت وفق منهجها الصحيح، وإذا تمت بشكل منهجي وطريقة تحليلية، والمقصود بالنقد هنا بشكله الموضوعي؛ هو مراجعة الأشخاص والأفكار والأنشطة، ثمَّ محاسبتها أو تحليلها وفق القواعد والأسس المتفق عليها، سواء أكانت شرعية، أو تمَّ الاتفاق عليها وفق تفكير عقلي، والنقد يحرر الأجواء العقلية من التعصب، ومن أجواء المشيخة، ويجدد الآراء، ويصنع المنهجية التي تتوسط بين الإفراط في تبني آراء أشخاص معينين واعتبارها أشبه بالمقدسة، وبين التفريط في تلك الأفكار ورميها في سلة المهملات. ولذلك فالدُّعاة عموماً مدعوون إلى إيجاد حرية الرَّأي والتعبير، والتعوّد على وجهات النظر المختلفة لأن هذا يدفع بالعمل الإسلامي إلى الأمام، ويحقق الخصوبة الفكرية، ويفتح مجالاً لتبادل الآراء، ولكن كلّ هذا يجب أن يتم خلال الأجواء الصّحية، ووفق ضوابط تمنع عند عملية النَّقد الشططَ والانحراف.) .
وفي الدَّعوة الحلّ !!
حريّةُ الرأي لا بدّ أن تكون واحدةً من الأدبياتِ الرَّاسخةِ التي تتمتّع بها الدَّعوة الإسلامية في مؤسساتها كافّة، وذلك بـ:
• إنشاءُ آلياتٍ لطرحِ الرَّأي والرَّأي الآخر ضمنَ القنوات الدَّعوية، في إطارٍ من الحريةِ والاحترام المُتبادل بعيداً عن التسفيه أو التشويه أو الاتهام، وذلك على المستويات الدعوية كلها.
• العملُ على الإفادةِ من تجارب الآخرين؛ قديمها وحديثها، فالخيرُ ليسَ حِكْراً لأحدٍ، والحق لم يُختزل لطائفةٍ دونَ غيرها، والحكمة على الدَّوام ضالّة كلّ عاقلٍ أنّى وجدها فهو تَبَعٌ لها!!
• تأهيلُ كوادرَ دعويّةٍ للارتقاء بمستوى المناهج التربوية، خصوصاً البُعد العمليّ لإثرائه وتقليل القصور على جانبه النظري، وإعادة دراسة المنهج التربويّ الدعويّ، ليتوافق مع متطلبات العصر.
• صقْلُ الخبرات لتمييز الأفكارِ وفرزها؛ غَثِّها وسمينها، وذلك بتدريبِ الكوادر الدَّعوية على فنونِ القراءة وتحليل ما بين السطورِ فيها، أيّاً كانت؛ خبراً تعليقاً، مقالاً، قصّةً، ... الخ.
• في الغالب يكون في طيّات الأفكارِ الخلاّقةِ أو المعاكسة للتيّار الحلّ أو التغيير، وفي تَجَلياتِ العصفِ الذّهني، أو الضغطِ الإيجابيّ، وغيرهما مندوحة لأفكارٍ كهذه!!
وليُعلم ختاماً؛ أنّه حينَ تكمّمُ الأفواهُ، ستزولُ السلطاتُ وتتهاوى، أيّاً كانت، لتصبحَ أثراً بعد عينٍ، يُدعى لها بالرَّحمة حيناً، وباللعنةِ والثبورِ أحياناً، إذ أنها ستكون سبباً أساساً في تأخّر المجتمعات والدَّعوات، بل موتها!!