تطلّ علينا كلّ يومٍ نظرياتٌ جديدةٌ في التربية ، ويتنافس الخبراء في هذا المجال في تقديم أحدث طرق التربية السلوكية وأنجحها ، ويتباهى الغرب بتقديم البرامج المتنوعة في فنون التربية وتقويم السلوك عند الأطفال .
وتطلّ علينا من التاريخ امرأةٌ ربّت فأحسنت التربية ، وعلّمت فخرّجت منارةً في العلم، ما تعّلمت من تلك الفنون شيئًا، ولكنّها تربّت في مدرسة الإبداع والتميّز . .
مدرسةٌ فيها فيضٌ من العلوم المختلفة، وفيها نهج التربية ومناهج التقويم والإرشاد . . فيها تُعلّم فنون التأثير والصّقل والتهذيب . . وفيها تسمو الأرواح فوق الذّوات وتربّى النفوس على السَّمع والطّاعة لله جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه، وبذلك فقط تكتمل التربية الحقّيقية .
تلك مدرسة حبيبنا ورسولنا محمَّد عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، وفي تلك المدرسة كانت أمّ الأمام أحمد بن حنبل تدرّس ابنها النَّجيب الذي أثبتت الأيّام أنّه وأمّه أساتذةُ في التربية السلوكيّة .
تلك الأم الفاضلة أتقنت فنون التربية المنهجيّة واللامنهجيّة ، لتخرّج من أرقى مدارس الإبداع علمًا من أعلام الأمَّة ، وفقيهًا من أشهر فقهاء الشَّريعة ، وإمامّا من الأئمة الأربعة.
فقد ورد أنّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال:" خرجْتُ من بغداد، فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد " .تلك مدرسة حبيبنا ورسولنا محمَّد عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، وفي تلك المدرسة كانت أمّ الأمام أحمد بن حنبل تدرّس ابنها
توفي والد الإمام أحمد بن حنبل وهو لا يزال صغيرًا . . وأخذت أمّه الفاضلة تقوم على تربيته .
يقول الإمام أحمد : "حفّظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات . . وكانت توقظني قبل صلاة الفجر بوقتٍ ليس بالقصير . . تدفِّئ لي الماء، لأنَّ الجو كان باردًا في بغداد . . وتلبس اللباس . . ثمَّ نصلِّي أنا وإيّاها ما شئنا . ."
ثمَّ تنطلق إلى المسجد وهي مختمرة لتصلّي معه صلاة الفجر في المسجد –لأنَّ المسجد كان بعيدًا آنذاك – وعمره عشر سنوات . وتبقى معه تعلّمه العلم حتَّى منتصف النهار .
يقول الإمام أحمد : فلما بلغت السَّادسة عشرة، قالت : يا بنيّ سافر في طلب الحديث، فإنَّ طلب الحديث هجرةٌ في سبيل الله .
فأعدّت له مستلزمات السَّفر، ثمَّ قالت : إنّ الله إذا استُودِع شيئًا حفظه . . فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
فذهب من عندها إلى المدينة ومكّة وصنعاء . . ليعود إليها وهو ( الإمام أحمد ) وقد قدّم للأمَّة ما قدّم .
تلك الأمّ الفاضلة ، كانت ترى في صغيرها خادمًا للدِّين ، لا خادمًا لها . . تلك الأم تحمّلت نار فراق ابنها ،لا ليرجع إليها بمال أو منصب وإنما لترتويَ فيما بعد بنور العلم الذي حمله ونفع به المسلمين إلى يومنا هذا .
أخواتي الحبيبات . . ذاك نموذج من نماذج كثيرة مرّت منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، نماذج لأمهات أدركن بقوّة إيمانهن وحسن إسلامهن ما لم يدركه كثيرون من الباحثين التربويين والمربّين المتحضّرين . فلا تسمحي أختاه أن يربّى أبناؤك على غير تربية أمهاتنا الفاضلات ، وقدواتنا الصَّالحات .
تلك القدوات اللّاتي نفخر بتقديم طرقهن وتجاربهن في التربية لأكبر الباحثين في هذا المجال، ونتمنى أن لا تُغفل أخواتنا تلك السِيَرَ العطرة والتجارب المتميّزة والسطور المضيئة التي أضاءت التّاريخ، ليفخر بتلك الصفحات المشرقة .